توفّي طفلان حديثا الولادة من نقص الغذاء
هذه فتاتٌ من رسالة عُثِر عليها على جثة في البحر، تعود على الأرجح إلى أحد الأشخاص الذين فضّلوا المخاطرة بحياتهم في البحار على البقاء في هذا البلد. من غير المعروف مَن كتب هذه الرسالة وإلى مَن كانت موجّهة: إلى منقذ محتمل قد تحرّكه هذه الأسطر أم إلى مجهول قد يشهد يومًا بأنّ في قعر هذه البحار طفلين حديثي الولادة. ومن غير الواضح ما إذا كان حامل هذه الرسائل يحاول أن يعود سباحةً إلى الشاطئ أم أنّه هو الرسالة، جثّة مربوط عليها حزام نجاة وفي داخله رسائل مكتوبة.
مقطوعين شرق قبرص... وعلى متن القارب 50 شخص
ربْما اعتقد الناس، أو ربّما تأمّلوا بأن حجم المصيبة التي يعيشونها قد تدفع بالقيّمين على الأوضاع إلى الاتفاق على أيّ حل، مهما كان مرحلياً أو جزئياً، لتفادي تفاقم المأساة. ربّما اعتقد الناس أنّه لا يزال هناك بعض من العقلانية في هذا النظام لكي ينقذ نفسه قبل إنقاذه الناس، بأنّ حتى الفساد يحتاج إلى مرفأ وشيء من الحركة الاقتصادية لكي ينمو عليها. ربّما، وهذا هو البؤس، اعتقدنا أن ذريعة البقاء قد تجبرهم على الحفاظ على شيء ما، قد نعيش من فتاته. لكن هناك 50 شخصاً فهموا أنّ هذا الاعتقاد بات وهمًا خطيرًا، وهمًا يجعل من الانقطاع شرق قبرص خيارًا أفضل من الانقطاع هنا، من البقاء هنا على أرض الخراب هذه.
لا يوجد ولا أكل ولا مازوت
لم يكن كاتب تلك السطور يتكّلم بطريقة مجازية. كتبها، متوجّهًا إلى مجهول يستنجد به، وإن كان يدرك أنّ سطوره القليلة لن تنفع في وجه هذا البحر الكبير. لم تكن تلك الكلمات مجازًا أو استعارة، فصاحبها مقطوع بالبحر، لا أكل معه ولا مازوت. لكنّ رسالته تلخّص كل كلمة رسمية صاغها القيّمون على الأوضاع، في محاولتهم لتحويل المآسي إلى فرص. لم تكن خطط الإنقاذ مجازًا أيضًا، كانت ابتزازًا موجّهًا إلى عالم خارجي مطلوب منه تعويم المنظومة، وسيردّد القيّمون مبتسمين: لم يعد يوجد ولا أكل ولا مازوت هنا. من أنظروا إليها تحترق إلى أنظروا إليها تغرق، سينكبّ النسور على «قوارب الموت» لكي يشحذوا منها بعض الأموال، ربّما لكي يجعلوا العالم ينسى أنّ راكبي تلك القوارب فرّوا منهم. ولكن لا هروب من الابتزاز، حتى بالموت. فهذا العهد ينتعش من المآسي، من انفجار المرفأ إلى قوارب الموت، آخر ما تبقى له أن يصدّره مقابل بعض العملة الصعبة.
أنقذونا نحن مقطوعين بالبحر
أنقذونا لأنّنا مقطوعون بالبحر، كتب صاحب هذه السطور. ولكنه أوصى، بفعله هذا، أن ينقذ هذا المجهول من بقي على أرض الخراب، قابعاً تحت سيطرتهم، هذه السيطرة التي تأخذ شكل الحرب الأهلية الناعمة. ففي اللحظة نفسها التي قرّر فيها 50 شخصًا أن يبحروا على قارب هزيل، كانت السياسة اللبنانية مقسومة حول مذهب وزير المالية القادم. قد تكون عبثية هذا التزامن إشارةً إلى أنّ السياسة اللبنانية باتت ماكينة قتل متفلّتة، تنتج انفجارات وقوارب موت وانتحارات. ربّما سينتصر الثنائي الشيعي على المؤامرة العالمية، أو سينقذ نادي رؤساء الحكومات السابقين دستورية الحكومة القادمة، أو سيستطيع التيار الوطني الحر أن يسهّل من دون أن يضحّي بالعهد. ربّما، ولكنّ الحقيقة الوحيدة اليوم هي أنّ هناك طفلين حديثي الولادة توفّيا في وسط البحار، ولن يعودا إلى قيد الحياة مهما فعلت النسور.