بقيت شتلة وحيدة في بيتنا في بيروت بعدما وزّعنا باقي الشتلات قبل مغادرتنا.
بقيت وحدها، تنتظر لمسة، قليلاً من الماء، حدّاً أدنى من العناية. لم تكن متطلّبةً منذ صغرها. قليلٌ من الاهتمام يكفيها لتنمو وتخضرّ.
في الفترة الأولى التي تلت غيابنا، كان جارنا يتفقّدها مرّة في الأسبوع. عندما ترك بيته وانتقل الى شقة أخرى، غاب عنها.
مرّت صديقتنا أيضاً بين فترة وأخرى لتطلّ على المنزل وعليها، حتى أنها أمضت في البيت وآنستها أياماً متتالية بعدما اقتحم مئات القادمين من الشياح شوارع فرن الشباك، حفاظًا على السلم الأهلي من تهديد قاضٍ. لاحقاً، تركت بيتها وبيتنا وانتقلت إلى بلد آخر.
هناك أبي الذي كان يمرّ أيضاً ليتفقّدها، كان يعرف أوقات التقنين، فيأتي عندما يكون المصعد شغّالاً. عندما أصبح التقنين متواصلاً على مدار الأيام والليالي، توقّف المصعد عن العمل وتوقّف هو عن القدوم تحت ضغط إصراري عليه بأن يريح نفسه من هذه المهمّة. وبقيت هي، من دون ماء ولا كهرباء ولا لمس ولا أنس، تنتظر وتقاوم وتؤجّل موتها.
عندما نأتي، نهتمّ بها، نسقيها، تنتعش، نغادر بعدها، وتعود للإنتظار.
عندما يمضي أكثر من شهرين ولا أتمكّن خلالهما من زيارة لبنان، يصيبني شعور بالعطش.
تشرب منها تعطش تاني، تشرب تعطش تشرب تاني.
حلمت منذ فترة بأنني في بيتي في بيروت. عجقة وأصوات عالية ووجوه، جمعة أشخاص لم أعد معتادة عليها. وأنا في عزّ هذه العجقة، التفتّ لأرى الشتلة، وقد كبرت وعلت وزهّرت. استغربت لأنها في العادة لا تزهر. غصن كبير محمّل بزهرة المجنونة راح يمتدّ يساراً ولون الفوشيا يطغى.
نظرت بعدها الى سقف المنزل، ورأيتها قد تخطّته وتوجّهت نحو السماء. لا سقف لبيتنا، بل أغصان وأوراق تتدلّى وتظلّله. جلست تحت واحد من أغصانها، أتأمّل كل هذا الجمال، والتفتّ الى صديقتي.
صديقتي هذه كانت جارتي في بيروت، أتت من الشام وسكنت لسنوات في حيّنا الذي أصبح حارتها، قبل أن تترك البناية والحارة والبلد وتوزّع شتلاتها. وهي تسكن في بيتنا وتهتمّ به عندما تزور لبنان، وتُرسل لي أخبار الشجرة والبيت والحيّ والناطور وأولاده.
التفتّ إليها بحالة من التأثّر الرهيب، لأشهدها على جمال هذه الشجرة وأشكرها على اهتمامها بها.
تلاشت بعدها الأصوات واختفت الوجوه، وبقيت الشجرة، بجذعها وأغصانها وأوراقها وزهرها وخضارها.
لولا الخيال لكنّا اليوم في عدم.
ومنذ صباحية هذا الحلم، أصبحت صورة الشجرة الوحيدة، في بيتنا المهجور، في مدينتنا الجميلة الحزينة، في بلدنا المنكوب الرهيب، حاضرة معي، كأنها جذوري التي هناك، كشوقي الذي يكبر ويتمدّد ويتجذّر ويتخطّى الحدود ويُزهر شوقاً آخر.
أصبحت أستعيد صورتها في لحظات الشدّة والوحدة. عندما أشعر بأن قلقاً ما بدأ بالتسلّل الى الحنايا، أغمض عينيّ، أتنفّس بعمق، وأراها أمامي، ممتلئة حياة وصحّة ونضارة بالرغم من كل شيء. صرت أتماهى معها وأتخيّلها وأنا في وضعية الشجرة في اليوغا. هذه الوضعية التي أحبّها كثيراً والتي تريحني كثيراً.
فيها، يكون وزن الجسم على قدم وساق، وباطن القدم الثانية وكأنها مغروسة في الساق الأول. القدم تضغط على الساق الذي يضغط بدوره على القدم. قوّتان متناقضتان تدفع كل واحدة في اتجاه الأخرى. تُزرع القدم الأولى في الأرض وكأنها مغروسة فيها، أسفل الجسم متماسك، الحوض، الذي فيه تنمو الجذور لتُزهر الأغصان، صلب وليّن في آنٍ. قوّة الجذور وثباتها يسمح للقسم العلوي من الجسم أن يترنّح يميناً وشمالاً، أن يرقص، أن يتمايل، أن يتحرّك، أن يعلو، أن يتمدّد، أن يلمس السماء إن أراد. المساحة داخل الجسم تكبر، النفس يصبح أكثر عمقاً وطولاً وجمالاً، يأتي الصمت الداخلي، وتختفي الأفكار وعجقتها وتناقضاتها وتضاربها لثوان، ليحتلّ الفراغ مساحة الرأس. الفكر وللحظات، يكون في الحاضر. الحاضر هو النفس الذي يزيد من قوة الجذور وليونة الأغصان.
منذ فترة وأنا أريد أن أكتب عن اليوغا، فجاء الحلم وهذه الشتلة الشاهدة على تحوّلات وتبدّلات في المدينة والسكّان والباقية في المكان، متّصلة به ومنفصلة عنه، متجذّرة فيه ومتّجهة سماءً. يمكن أن اليوغا بالنسبة لي هي كهذا الحلم، كالخيال. صارت شتلتي التي في بيروت نديمتي، تنتقل معي أينما ذهبت، كسجادة اليوغا، التي على مساحتها الصغيرة، يتّسع المدى وتتوحّد الأضداد. كأنها تظلّلني، أو كأنها ظلالي، عليها أتعلّم وأتطور أحياناً وأتراجع أحياناً أخرى وأتعب وأرتاح وأتمدّد وأتجذّر وأتحرّر وأعطش وأشرب وأشتاق وأصبر وأنتظر الزهر القادم وضمّ الأهل والأحباب.