فكرة ثقافة
طارق أبي سمرا

آراؤنا التي ليست لنا

14 نيسان 2025
تستلهم هذه المقالة أفكاراً طرحها الروائي التشيكي ميلان كونديرا في روايته «الخلود».

إلى جانب ما للإنسان مِن تعريفات كثيرة وشائعة، كأنْ يُقال إنّه حيوان ناطق، أو عاقل، أو سياسيّ، يجدر بنا أن نضيف تعريفاً آخر لا يقلّ شأناً: الإنسان هو ذلك الحيوان الذي يحمل رأياً جاهزاً في كلّ شيء وأيّ شيء. وليس ذلك وحسب، بل إنّه يتمسّك بآرائه ويجاهر بها كما لو كانت مِن أثمن ما يملك.

ما يُلاحَظ فوراً هو أنّ درجة تمسّك المرء برأي ما لا تتناسب بالضرورة مع أهميّة المسألة التي يتعلّق بها هذا الرأي. فالآراء قد تشمل أموراً بسيطة كطريقة تحضير طبق ما (التبّولة مثلاً: هل يجوز استبدال البرغل بالكينوا؟ وهل يظلّ الطبق تبّولة إذا فُعِل ذلك؟)، مروراً بالنقاش الأبدي حول أيٍّ مِن فصول السنة هو الأجمل، وصولاً إلى تساؤلات أكثر جديّة، مثل ما إذا كان التجديف يندرج ضمن حريّة التعبير أم لا، أو مَن يتحمّل المسؤولية الأكبر عن القتل والدمار الذي لحق بلبنان في الحرب الأخيرة: إسرائيل أم حزب الله... الآراء، إذاً، قد تتفاوت بين التافه والمصيري، إلّا أنّ درجة التمسّك بها قد تبقى، في أحيان كثيرة، على حالها.

المفارقة أنّ التمسّك بالآراء لا يعني الامتناع عن تغييرها، فالناس يبدّلون آراءهم باستمرار، وغالباً ما ينسون أنّهم فعلوا ذلك. لكنّهم خلال الفترة التي يحملون فيها رأياً ما، يتشبّثون به ويُدافعون عنه كما لو كان أزليّاً أبديّاً. 

فما سرّ هذا التعلّق؟

الرأي يقول شيئاً عن العالم أو عن كائن من كائناته (هذا جيّد، هذا عاطل؛ هذا جميل، هذا قبيح؛ ينبغي فعل كذا، ينبغي الامتناع عن فعل كذا... إلخ)، لكنّه في الآن نفسه يقول شيئاً عن حامل الرأي: أنّه ينتمي إلى فئة من البشر تُشاركه في الرأي الذي يتبنّاه، ولا ينتمي إلى فئة أخرى تتبنّى الرأي المُعاكس. وبهذا يكون قد صنّف نفسه وحدّد جزءاً من هويّته. وبالتالي، فإنّ بضعة آراء تكفي لخلق ما يبدو وكأنّه هويّة فريدة.

لنأخذ، على سبيل المثال، شخصاً يحمل الآراء التالية ويُجاهر بها: الفتّوش أشهى من التبّولة؛ أفلام «الأكشن» مملّة؛ رشيد الضعيف أفضل روائي لبناني؛ الاستحمام بالماء الساخن متعة خالصة؛ رفيق الحريري أعظم سياسي مرّ على لبنان منذ نهاية الحرب الأهليّة؛ التواضعُ فضيلةُ الفاشلين. بهذه التوليفة المكوَّنة من ستّة آراء فقط، يكون هذا الشخص قد صنع ما يتراءى له أنّه هويّة فريدة ومميّزة.

آراؤنا، إذاً، امتداداتٌ لذواتنا. إنّها كالملامح التي نبصرها حين ننظر في المرآة، ولذلك نتماهى معها حدّ الذوبان فيها. فمَن يُجاهر بولَعه باللحوم النيئة، أو بعشقه لسمير جعجع، إنّما يتباهى بإحدى صفات أناه، ويسعى إلى حمل مَن حوله على الإعجاب بما يظنّه سِمةً تُميِّزه. وعليه، فإنّنا في حياتنا اليوميّة نتصرّف جميعنا كما لو كنّا مناضلين أو ناشطين، فلا نكفّ عن الدفاع عن آرائنا والكفاح من أجل نصرتها.

لكن من سوء حظّنا أنّ عدد الآراء الممكنة قليلٌ جدّاً مقارنة بعدد البشر، أو كما يقول كونديرا باقتضاب: الناس كثرٌ والأفكار قليلة. لذلك فإنّ آراءنا التي نظنّ أنّها تُميِّزنا، لا تزيدنا في الواقع إلا تشابهاً مع عدد لا يُحصى مِن الآخرين. بل إنّنا، في أغلب الأحيان، نستعير أفكارنا أو نسرقها واحدنا من الآخر من دون أن نعي ذلك.

ما نظنّ أنّه يمنحنا هويّة فريدة– أي حمل الآراء وإشهارها– هو في الحقيقة عكس ذلك تماماً: إنّه مجرّد تقليد للآخرين. نحن لا نصنع آراءنا ولا نحملها، بل حتّى لا نختارها؛ إنّنا مجرّد أوعية تمتلئ بأفكار يصعب تحديد مصدرها بدقّة. كأنّما الآراء لها حياة خاصّة وتحتاج إلى العقول البشريّة لكي تنتشر وتتناسل. لكنّها لا تستطيع أن تنتشر وتتناسل إلّا إذا توهّمنا أنّنا اخترناها بحريّة، بل صنعناها بأنفسنا تعبيراً عن فرادتنا.

ما نظنّه مِن أثمن ما نملك هو في الواقع ليس لنا. آراؤنا ليست لنا؛ لقد استعرناها من الآخرين. وهويتنا التي تُشكِّل الآراء جزءاً أساسيّاً منها، هي أيضاً ليست لنا؛ فهي حصيلةُ استعارات واقتباسات من هنا وهناك. لكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بوهم أنّه كائن فريدٌ من نوعه، لا شبيه له ولا نظير.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
شهيد في غارة إسرائيليّة على الغازيّة
إسرائيل تقتل 27 طفلاً يومياً في غزة 
حدث اليوم - الخميس 17 نيسان 2025
17-04-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 17 نيسان 2025
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 17/04/2025
نوّاب المصارف:
17-04-2025
تقرير
نوّاب المصارف:
مَن حاول منع رفع السريّة المصرفيّة؟
لبنان يرحّب بأربعة وعول جبلية جديدة