نص سوريا
محمد علي الأتاسي

الوجوه المُغيَّبة للمجزرة

11 نيسان 2025

سعيد

تعرّفت إلى الناشط المصوّر سعيد البطل في بدايات الثورة السورية في العام 2011. أتى يومها إلى لبنان من مدينة دوما الثائرة في الغوطة في زيارة قصيرة للالتحاق بورشة تدريبية للتصوير السينمائي. في بيروت اكتشفتُ أن هذا الشاب القادم من الغوطة ينتمي الى الطائفة العلوية واسمه الحقيقي هو سعيد نبهان، انتقل من طرطوس للدراسة الجامعية في دمشق وسكن مدينة دوما في شقة متواضعة تملكها عائلته.

بين طرطوس ودوما وجرمانا ودمشق، عاش سعيد فترته الجامعية الأولى وانخرط مع أبناء جيله، من مشارب وطوائف مختلفة، في نشاطات ومظاهرات الثورة السورية منذ بدايتها، وسرعان ما تحوّل الى توثيق المظاهرات والانتهاكات التي كانت تمارسها الأجهزة الأمنية بحق المتظاهرين. اعتُقِل عدّة مرات لفترات قصيرة، قبل أن يُحاصَر في الغوطة، حيث عمل في المكاتب الإعلامية للناشطين الصحفيين وقام مع كاميرته بتوثيق القصف والمعارك العسكرية والحياة اليومية لأهالي الغوطة ومعاناتهم خلال الحصار الذي امتدّ لعدة سنوات. ومن هذه التجربة سيولد الفيلم الوثائقي «لسه عم تسجل» الذي أخرجه مع غياث أيوب، وحصد عليه في العام 2018 خمس جوائز في مهرجان البندقية الدولي.   

خلال كل هذه المدة التي أمضاها سعيد في الغوطة تحت القصف والبراميل، لم يتعرّض لأي مضايقات مباشرة بسبب انتمائه المذهبي، وتقاسم مع الدوامنة لقمة العيش ولظاه، وتمت حمايته وتأمين خروجه من الغوطة من قبل بعض فصائل الجيش الحر، لينتقل بعدها لبيروت ومنها إلى المانيا. 

خلال كلّ هذه المدة لم يكن سعيد شاباً علوياً يعيش في الغوطة الشرقية ذات الأغلبية السنّية، كان سعيد مواطناً صحفياً وناشطاً إعلامياً ينتمي بالولادة إلى الطائفة العلوية ويعيش الى جانب أهالي الغوطة الشرقية المنخرطين مثله في الثورة.

عندما ضرب النظام السوري الغوطة، وتحديداً مدينة زملكا ومحيطها، بالسلاح الكيميائي في 21 آب من العام 2013، كان سعيد من أوائل الواصلين إلى مكان سقوط الصاروخ في زملكا، قادماً من دوما برفقة كاميرته. وهناك وأمام هول المشهد سرعان ما أدرك مع زملائه أن الوضع الحرج لآلاف الناس المختنقين في بيوتهم وغرف نومهم لا يحتمل التصوير، بل يتطلّب من الجميع المساهمة في عمليات الإنقاذ والإسعاف المباشر.     

أطفأ سعيد كاميراته ووضعها جانباً، وبدأ مع رفاقه بدخول الأبنية وصعود أدراجها طابقاً طابقاً، محاولين دق أبواب البيوت لإنقاذ من في داخلها، ومن ثم كانوا يخلعون الأبواب عندما يرون الأحذية في الخارج ولا أحد يستجيب لهم في الداخل، ليتفاجأوا في الغالب بجثث أفراد العائلة مكوّمةً في المطبخ أو الحمام وقد قضت وهي تحاول أن تغتسل بالمياه من أثر الاختناق بالغاز الكيميائي. ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى أصاب سعيد الدوار من بقايا الغاز في الأجواء، وانتقل بدوره لتلقي العلاج في دوما. 

في اليوم الثاني، عاد سعيد لموقع الضربة وصوّر بقايا هيكل الصاروخ الحامل للسلاح الكيميائي، وكانت صورته هذه أوّل صورة تناقلتها وكالات الأنباء في العالم عن حقيقة السلاح الكيميائي الذي ضرب فيه نظام الأسد أهالي الغوطة. في ذلك اليوم، لم يكن سعيد شاباً علويّاً يحاول إنقاذ عائلات سنّية من الموت بالسلاح الكيميائي الذي استخدمه النظام الأسدي ضدهم، كان سعيد إنساناً سورياً يحاول إنقاذ عائلات سورية في الغوطة من الموت الأسدي. وفي اليوم التالي، لم يكن سعيد شاباً علويّاً عندما عاد لتصوير سلاح الجريمة، كان سعيد مصوّرا صحفياً يوثّق للعالم جرائم الأسد ويصوّر بقايا الصاروخ الكيميائي الذي ضرب به الغوطة. 

قبل وصوله لبيروت، حاولتُ جاهداً إقناع سعيد بكتابة نص عن تجربته تلك. أخذه الأمر بعض الوقت والكثير من الممانعة، قبل أن يواجه هذه الصدمة ويستعيد بقلمه بعضاً ممّا عاشه وشاهده في ذلك اليوم المريع، مقدِّماً واحداً من أجمل وأقسى النصوص التي كُتِبت عن الهجوم الكيميائي على الغوطة تحت عنوان «أحمل الكاميرا كحامل درع». 

في هذا النص الذي وقّعه سعيد باسمه النضالي (سعيد البطل)، لم يجد ضرورة للإشارة الى انتمائه للطائفة العلوية، كان سعيد إنساناً، أنقذ مواطنيه المدنيّين في ذلك اليوم الأسود واستنشق معهم غاز السارين الذي ضرب به بشار الأسد الغوطة. 

أراد سعيد بصفته مصوِّراً ومواطناً صحفياً، لا بصفته ابناً للطائفة العلوية، أن يوثّق هذه التجربة المرّة في نص مكتوب غابت عنه الإشارة إلى انتمائه المذهبي.


أبو سعيد
 

أبو سعيد، نبيه نبهان، المهندس والناشط المدني المعارض المقيم في طرطوس، كان يخفي على الدوام أنّ ولده الأكبر سعيد محاصر في الغوطة مع الثوار. لكنّه لم يألُ جهداً مع العديد من الناشطين الذين أسسوا فريق «متطوّعو العمل الإنساني في ‏محافظة طرطوس» وعملوا بالتنسيق مع جمعية «العاديات» لاستقبال النازحين القادمين من مدينة وريف حلب. كما كان نبيه على رأس مجموعة من الانتحاريين في الفريق الذين خاطروا بحياتهم ودخلوا إلى قرى بانياس لتنظيم أعمال الإغاثة والإعانة للناجين من مجزرتي البيضا وحي رأس النبع في أعقاب المقتلة التي ارتكبتها عصابات مرتبطة بنظام الأسد بحق المدنيين. 

يومها لم يتدخّل أبو سعيد وأعضاء فريقه متعدّدي الانتماءات المذهبية، وخاطروا بحياتهم لإغاثة أهالي البيضا ورأس النبع، لأنّ الضحايا من السنّة أو لأن القتلة من العلويين. دخلوا لأنّ الضحايا بشر مثلهم، ولأنّ القتلة أرادوا أن يُخرجوهم من إنسانيتهم.   

في أعقاب نشر سعيد نصّه عن مجزرة الكيماوي، لم يتمالك أبو سعيد نفسه، وتجرّأ وهو المقيم في طرطوس ونشر على صفحته على الفيسبوك رابط المقالة من دون تعليق، فما كان إلا أن فُتِحت أبواب الجحيم الفيسبوكية على أبو سعيد في التعليقات، من الأصدقاء قبل الأعداء، لتجرُّئه ونشره ما أسموه أكاذيب الإرهابيين. 

أمام حالة النكران والتشكيك بضربة الكيميائي، حاول أبو سعيد عبثاً أن يقنعهم بجمالية النص وصدقه وبضرورة أن يستمعوا إلى الرأي الآخر. لكنه ظل عاجزاً عن أن يخبرهم أنّ كاتب النص هو ابنه سعيد نبهان وأنّ ما يصفه سعيد في النص هو الحقيقة وهو بعض ممّا عاشه ابنه وقاساه شخصياً.  

أتذكر غضبي في ذلك الوقت وأنا اقرأ حفلة الشتائم والتخوين على صفحة أبو سعيد لأنه تجرأ ونشر نصّاً وشهادةً شخصية عن مجزرة الكيميائي تكذب وتفكك رواية النظام الرسمية. وأتذكّر غيضي وعجزي عن الردّ وإخراس المكذِّبين وكشف السرّ بأنّ صاحب النص هو سعيد نبيه نبهان.

أنجز سعيد فيلمه عن حصار الغوطة وجال فيه مهرجانات العالم ونال العديد من الجوائز، واحتفى أبو سعيد في كل مرة على صفحته على الفيسبوك بإنجازات الفيلم. لكنّ الأمر لم يطل كثيراً، واختطفت المخابرات الجوية نبيه نبهان من طرطوس في بداية شهر أيار 2019 ونقلته الى أحد سجونها في دمشق، وقامت عائلته تحسُّباً بإغلاق صفحته على الفيسبوك ومسح كل ما يشير إلى سعيد وفيلمه وحصار الغوطة.

أطلق سراح أبو سعيد بعد ثلاثة أشهر في أعقاب حملة ضغوط كبيرة نسقتها ابنته سهى، وعاد بحذر لنشاطاته في الإغاثة والعمل المدني ولكتابته المعارضة، مذكراً الجميع أن هناك أصواتاً حرّة ومعارضين شرفاء في عقر دار النظام السوري. وكان أبو سعيد أول المحتفين بسقوط النظام والداعين للمباشرة بمسار العدالة الانتقالية ومحاسبة القتلة والمجرمين في صفوف النظام، وخصوصاً المتورِّطين في مجازر البيضا ورأس النبع، واحتجّ بشدّة على مشاركة البعض منهم في الجلسات التحضيرية التي عقدتها لجنة الحوار الوطني في محافظة طرطوس تحضيراً لمؤتمر الحوار الوطني في دمشق الذي كان أبو سعيد من المشاركين فيه عن محافظة طرطوس.  


المجزرة المتجدِّدة ونزع الإنسانيّة

بعد أحداث 6 آذار وبداية المجازر في قرى الساحل، وخصوصاً في منطقة بانياس، وجد نبيه نبهان ومن تبقى من فريقه أنفسهم مجدداً في بؤرة المجزرة، وإن تبدّلت أطراف المقتلة. فلم يألوا جهداً، كما في مجازر البيضا ورأس النبع، لتوفير الإغاثة وتوثيق الجرائم ونشر قوائم بأسماء الضحايا والدعوة إلى محاسبة القتلة.

في مجازر الماضي، كما في مجازر الحاضر، لم يسأل نبيه وفريقه أنفسهم، عن هوية الضحايا وانتمائهم المذهبي عندما هبّوا لنجدتهم. كما لم يسأل سعيد ورفاقه أنفسهم عن انتماء أهالي الغوطة المذهبي عندما ساعدوا في إنقاذ ضحايا مجزرة الكيميائي، وتعرضوا مثلهم إلى غاز السارين. كانت إنسانيّتهم، في بانياس كما في الغوطة، مع السنّة كما مع العلويين، في الأول كما في الأخر، هي بوصلتهم.  

أما في الجهة المقابلة، جهة القتلة والمجرمين، وجهة المصفّقين والمبرِّرين لهم، فالحدود واضحة ومرسومة بدم الضحايا الأبرياء. من الغوطة إلى الساحل، مروراً بحماه وحمص وكرم الزيتون والحولة وحي التضامن، ووصولاً إلى قرى الساحل: نحن وهُم! معنا او ضدنا! مظلوميتنا مقابل مظلوميتهم! سرديتنا مقابل سرديتهم! وصولاً إلى وجودنا مقابل فنائهم!

في الماضي كما في الحاضر، لكي تتمكن من استباحة الآخر وتحليل دمه، لكي تصل إلى القدرة على القتل والإبادة، عليك أن تُخرج الآخر من إنسانيته ومن حقه في الحياة الكريمة وحقه في الموت الكريم. تقصفه هو وأولاده بالغاز الكيميائي وتقتلهم خنقاً كأنهم حشرات، أو تقتله برصاص الغدر وتنتزع قلبه وتتّصل بأبيه وتخبره أن يلمّ جثّة ولده حتى لا تأكلها الكلاب الشاردة، كما حدث مع والد سليمان من قرية الرصافة ريف مصياف، ووُثِّقت شهادته في فيديو مؤثر انتشر بكثرة في شبكات التواصل الاجتماعي. 

قد يظنّ البعض أنّ هذه الحدود المرسومة بالدم والكراهية والمجازر، بين أبناء البلد الواحد، هي أمضى من أن تمحوها مبادرات لبناء الجسور، وأقوى من أن تتجاوزها شخصيات داعية للعدالة والمحاسبة، وأرسخ من أن تجمع بينها وطنية متداعية.

يبقى هذا السؤال الحاضر والجارح مفتوحاً. لكن ماذا لو كان ما مِن خيار إلا في العيش المشترك، لأنّ الطريق الآخر الذي ترسمه الدماء والكراهية المتوالدة محكوم بالأفق المسدود؟

ماذا نقول لأمثال سعيد البطل وأبو سعيد وغيرهم كثر في الساحل وفي دمشق وحلب ودرعا ودير الزور والقامشلي؟ ماذا نقول لهؤلاء الذين تجمعهم إنسانيتهم وحسّ مواطنيتهم وانتماؤهم إلى سوريا دولة مدنية ديمقراطية لجميع أبنائها؟ وماذا نقول لهؤلاء الذين لا يخافون ولا يتنكرون لانتماءاتهم المذهبية والطائفية والإثنية، ولكنهم لا يقفون عندها، ولا يختنقون بها أو يخنقون الآخرين بها!  

أبو سعيد لم ينتظر الجواب، كتب لأولاده الثلاثة، سعيد وسهى ومحمد، بعد أن أصابتهم الخيبة من ردود الفعل التبريرية أو التخفيفية التي صدرت من بعض أصدقائهم في الثورة تجاه مجازر الساحل، كتب مذكِّراً: لا تتنازلوا عن إنسانيّتكم مهما واجهكم. 

أبو سعيد ومن تبقى من رفاقه في فريق «متطوّعو العمل الإنساني في ‏محافظة طرطوس» لم ينتظروا أن ينظم أحد في دمشق أو الغوطة أو حلب وقفةً تضامنيةً مع ضحايا مجازر الساحل من المدنيين الأبرياء، بسبب حملات التحريض الإعلامية التي خلطت الحابل بالنابل ووتّرت الأجواء. لكنّهم نظّموا قبل عدة أيام وقفة تضامنية في طرطوس، في مقرّ الخوذ البيضاء، تضامناً مع أهالي دوما في الذكرى السابعة لمجزرة الكيماوي الثانية التي ارتكبها النظام في 7 نيسان 2018، مطالبين بمحاسبة الأسد على هذه الجرائم، ومؤكدين على أهمية تحقيق العدالة والمساءلة بشأن كل الجرائم التي حصلت في سوريا. 


طعم الطماطم 

الصحافي نجوان عيسى صديق سعيد نبهان في طرطوس، الذي اتخذ، كحال سعيد، اسماً حركياً هو صادق عبد الرحمن وقع به مقالاته خلال سنوات القمع الأسدي، كتب يأساً على صفحته على الفيسبوك خلال مجازر الساحل الأخيرة:

في العام 2013، زرتُ مع مجموعة من العاملين الإنسانيين قرية البيضا في بانياس بعد المذبحة بأيام، رأيت البيوت المحروقة والمنهوبة، وآثار الدماء، وقرأتُ الفاتحة على المدفن الجماعي. نزلنا بعدها إلى «وطا البيضا» حيث كان الناجون منتشرين في المزارع. سألني أحدهم، كان شاباً لن أنسى وجهه في حياتي ولو رأيته اليوم بين ألف رجل لعرفته، سألني: «أنت علوي؟»، قلتُ له مطأطئ الرأس: «نعم»، قال لي: ليش هيك عملتو؟.

بقيتُ صامتاً، لم أنبس ببنت شفة، واصلتُ التحديق في وجهه كالأبله، لم أعرف ماذا أردُّ عليه. أعطاني حبات طماطم صغيرة من أرضه، حبات مُرقّطة من نوع جلد النمر الذي يزرعونه في سهل بانياس الخصيب، وأدار ظهره ومشى.

ليتني بقيتُ صامتاً إلى الأبد بعدها، وليتني قبلها لم أَقُل حرفاً واحداً، وليتني أنجح في إغلاق فمي إلى الأبد.

العار علينا جميعاً. العار على الناس جميعاً. 

الرحمة للضحايا، والخزي والمذلّة لفرق الموت الإجرامية القديمة والجديدة والمدافعين عنها. 

لم يدرِ نجوان عيسى، أو ربما هو يدري لأنه كتب ما كتب، أن حبات الطماطم التي مدّ يده وأعطاه إياها الشاب قبل أن يدير ظهره ويمشي، هي حبات الأمل والحياة المتجددة التي تجيب على سؤال الشاب التعميمي والاتهامي بحق العلويين، وهي بطعم الحياة المرقطة التي تختزنها ونختزنها، والتي ستمحو العار عنا جميعا، عار فرق الموت الإجرامية، القديمة منها والجديدة.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الأمن السوري يعتقل سالم داغستاني 
نيويورك تايمز تنشر تقارير التشريح
حرب السودان تدخل عامَها الثالث 
جيش الاحتلال الإسرائيلي يستهدف مركزاً للدفاع المدني جنوب لبنان
تعليق

الحرب الأهلية وذكراها، والمصارف وإعلامها

سامر فرنجية
ميغافون تعترض أمام النيابة العامّة:
15-04-2025
تقرير
ميغافون تعترض أمام النيابة العامّة:
الصحافيّون لا يمثلون إلا أمام محكمة المطبوعات