حال سوريا اليوم كحال مسجد بني أميّة في قلب العاصمة السورية دمشق. هذا الصرح العريق الذي كان في غابر الزمان معبداً للإله بعل ومن ثمّ معبداً يونانياً ورومانياً للآلهة جوبيتر قبل أن يتحوّل إلى كاتدرائية بيزنطية تضمّ رفات القديس يوحنا المعمدان، ليصبح في القرن السابع الميلادي المسجد الكبير لعاصمة الإمبراطورية الأموية، ورابع مساجد الإسلام بعد الحرم المكي والمسجد النبوي في المدينة المنورة والمسجد الأقصى في القدس.
بقي هذا الصرح قائماً وشامخاً في قلب المدينة القديمة، رغم نوائب الدهر والبشر. فإضافةً إلى الحرائق والزلازل التي تركت آثارها التي لا تُمحى على هذا المكان العريق الذي يزيد عمره على الألفَيْ عام، فإنّ جحافل الغزاة والسلالات الحاكمة والسلطات المتعاقبة على هذه المدينة أبت هي الأخرى ألا تترك بصماتها الواضحة والفاقعة على عمارة المسجد، وأن تحفر أسماءها وألقابها على حجارته وأعمدته أو أبوابه. ويكاد لا يخلو قوس حجري أو عمود رخامي أو لوح فسيفساء في مداخل الجامع الأربعة من اسمٍ لأمير أو سلطان أو حاكم أراد تخليد اسمه في بنيان وحجارة هذا الصرح التاريخي. لكنّ الجامع الكبير، كما شقيقه وتوأمه في حلب، ظلّ يحتفظ إلى يومنا هذا بتسمية المسجد الأموي الكبير نسبةً لبني أمية، ولم ينجح تعاقُب الحقب والحكام، بنزع هذا النسب عنه.
الأُمويّ في عهد الأسد
منذ بداية عهده، استخدم الأسد الأب مكانة ورمزية الجامع الأموي للتقرّب من أهل دمشق ولمحاولة إظهار ورعِه وتديُّنه. فدخل الأسد دمشق القديمة بعد انقلابه من تحت رايات «طلبنا من الله المدد أتانا بحافظ الأسد» التي علّقها بعض تجار سوق الحميدية، وعبر الأسد بوابة الجامع منتصراً بلباسه العسكري متأبِّطاً ذراع مفتي سوريا الشيخ كفتارو لأداء صلاة الجماعة فيه. ولم يلبث الأسد أن سمح في السبعينات من القرن المنصرم بتطبيق مخطط المعماري الفرنسي ايكوشار للمدينة القديمة، والذي تمّ على أثره إزالة العديد من الأسواق المحيطة بالمسجد من مثل سوق القبابية وسوق المسكية، وتمّ فتح طريق عريض يوازي سور القلعة ويصل إلى مدخل الجامع، ويسمح بوصول التعزيزات الأمنية والقوافل العسكرية إلى قلب المدينة القديمة مخترقاً ومدمِّراً أجزاء كاملة من نسيجها العمراني. وفي بداية التسعينات، دشّن الأسد حملة ترميم (وتشويه) واسعة للمسجد ومحيطه نتج عنها تغيير جذري للعديد من عناصره المعمارية، خصوصاً على الأسوار الخارجية، رافقها حفر لاسمه ولقبه «الرئيس المؤمن حافظ الأسد» على العديد من اللوحات الرخامية على السور الخارجي وفي مدخل الجامع الغربي وبشكل متكرر على حائط الرواق الشمالي.
أما في عهد الأسد الابن، فقد تحوّل المسجد إلى منطقة أمنية عالية الخطورة والحراسة، ليس فقط لتخوُّف السلطات من اندلاع التظاهرات من باحة الجامع كما حدث في الأسابيع الأولى للثورة احتجاجاً على خطب الجمعة المؤيدة للنظام التي ألقاها الشيخ البوطي قبل أن يجبره المتظاهرون على النزول من المنبر، ولكن لقربه كذلك من مسجد ومقام الست رقيّه الذي وسّعته وأعادت بناءه الجمهورية الإسلامية الإيرانية على شكل كتله باطونية ضخمة مطرّزة ومغلّفة بالنقوش والرسوم الفارسية الغريبة عن التراث المعماري لجوامع دمشق، الشيعية منها قبل السنية، وراح العديد من الحجاج الإيرانيين من بعدها يقومون بتنظيم زيارات جماعية في مواكب لطم بين مرقد الست رقية ومشهد رأس سيدنا الحسين في الجناح الشرقي للجامع.
البوطي إلى جانب صلاح الدين
لكنّ التغيير الأكبر الذي أدخله الأسد الابن في محيط الجامع كان تجرُّؤه وسماحه بدفن الشيخ الموالي للنظام محمد سعيد رمضان البوطي الذي قُتِل بتفجير انتحاري، في مقام ومثوى صلاح الدين الايوبي تحت قبة القبر، في حين أن زعيم سوريا الأكبر في النصف الأول من القرن العشرين، الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي اغتيل في العام 1940، دُفِن في الحديقة الخارجية خارج القبّة، وكذلك الحال بالنسبة لطه الهاشمي رئيس وزراء العراق الذي توفّي منفياً في دمشق، وكذلك أيضاً بالنسبة للطيّارين العثمانيين الثلاثة الذي قتلوا بتحطم طائرتيهما في العام 1915 وهم في طريقهم من إسطنبول إلى القاهرة عبر دمشق واعتُبروا في ذلك الزمن كأبطال وطنيين.
قبرا الشهبندر والهاشمي إلى جوار مثوى وقبّة صلاح الدين الأيوبي
المسجد في العهد الجديد
بعد سقوط الأسد، لم يكن مستغرباً أن يذهب أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام، برفقة مقاتليه رأساً للصلاة في الجامع الأموي حال دخول قوّاته إلى العاصمة السورية وتحريرها، وأن يتوجّه بكلمته الأولى للسوريين من داخل حرم المسجد، لما لهذا المكان من رمزية سياسية ودينية وتاريخية. ولم يكن الشرع وجنوده هم الوحيدين الذين توجهوا إلى الجامع الاموي، بل يمكننا القول إنّ أهل المدينة خصوصاً- والسوريّين عموماً- استعادوا هذا المكان الذي تحوّل منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة إلى قلب المدينة النابض مكاناً للصلاة والعبادة وخطب الجمعة والدروس الدينية والزيارات واللقاءات والسياحة والنشاطات السياسية والاجتماعية. كما سارع الناس العاديّون، منذ اليوم الأول وبوسائل بدائية لم تتعدَّ المطرقة والإزميل، إلى إزالة اسم حافظ الأسد من على رخام وحجارة المسجد في العديد من المواقع.
عودة الألوف المؤلفة لزيارة الجامع الكبير، خلق منذ اليوم الأول العديد من حالات الفوضى والازدحام، خصوصا أيام الجمعة، وكانت نتيجتها المأسويّة مقتل ثلاث نساء نتيجة التدافع الذي حصل خلال مأدبة إفطار نظمها اليوتيوبر السوري الشيف أبو عمر في الساحة الخارجية أمام مدخل الجامع. وقد جرى بعدها تنظيم الدخول والخروج من بوابات المسجد، وتمّت إزالة العديد من البسطات من الطرقات المحيطة بالجامع، كما مُنع المقاتلون من الدخول بسلاحهم إلى باحة الجامعة.
سيارات الدفع الرباعي في صحن الجامع
كحال معظم السوريين الذين حُرموا من بلدهم لسنين طويلة، كان الجامع الأموي هو وجهتي الأولى يوم عدتُ برفقة عائلتي الصغيرة إلى دمشق بعد أيام قليلة على سقوط نظام الأسد. دخلنا يومها صحن الجامع سويّاً، وتجوّلنا في أرجائه، وشعرنا بسوريا كلّها تحتفل بالنصر في فناء الجامع. يومَها، كان يُطلَب من النساء على مداخل الجامع، وكما جرت العادة، أن يغطّين رؤوسهنّ ويرتدينَ ثياباً محتشمة أو تُعار لهنّ عباءة تفي بهذا الغرض لدى دخولهنّ صحن الجامع.
سيارة البثّ التلفزيوني في الأيام الأولى بعد سقوط الأسد
في زيارتي التالية- وكان يوم صلاة الجمعة بتاريخ 3 كانون الثاني 2025- تفاجأت بمنظر شاذّ وتشويه بصري في وسط الصحن لم أشاهده من قبل. وجدت سيّارتين رباعيّتيّ الدفع للبثّ التلفزيوني المباشر تقفان في منتصف باحة المسجد، في حين جرت العادة أن تتوقف سيارات البث التلفزيوني في الساحة الخارجية لجهة سوق الحميدية أمام مدخل الجامع، وأن لا تنتهك حرمة المسجد. وعندما سألت سائق السيارة عن السبب ومَن أعطاه الإذن، تحجّج بأنّ كابلات الكهرباء وكابلات البثّ التي لديه قصيرة، وأنّهم هنا لبثّ خطبة الجمعة على الهواء مباشرة، وأنّ لديهم الأذونات اللازمة.
ذهبت مستفسراً إلى مكتب مدير الجامع، الأستاذ عصام سكر، وهو معيَّن في هذا المنصب منذ أيام النظام البائد، فتحجج بان الأمر خارج مسؤوليته وأنّ مديرية الأوقاف في دمشق هي التي أعطت أذونات لبعض قنوات البثّ للدخول بسياراتها الى باحة الجامع الاموي. وعندما قلت له محتجا بالعامية حرام عليكم إدخال سيارات دفع رباعي محمّلة بالمعدات لتسير على رخام صحن الجامع، أجاب الشيخ المعمّم الجالس بقربه متسائلا ومحتجاً: من أنا وما هي مهنتي؟ وكيف أسمح لنفسي بتقرير ما هو الحرام والحلال؟. وهكذا انتقلنا فجأةً من موضوع الحفاظ على رخام وأرضيات الجامع من عجلات السيارات رباعيّة الدفع، إلى موضوع من يحق له بالإسلام أن يحدّد ما هو الحلال والحرام في شؤون الناس ودنياهم! وكل هذا لأنني تجرأت ولفظت محتجا كلمة «حرام» في حضرة الشيخ وتعدّيت على صلاحياته.
أمام عبثية الموقف، قلت لنفسي فلأذهب وأتكلّم مع جنود الهيئة الملتحين الذين يحرسون بوابات الجامع ويشكلون سلطة موازية لمدير الجامع، عسى أن أجد لديهم آذاناً صاغية. كرّرت احتجاجي السابق على إدخال السيارات إلى صحن الجامع، مستخدماً العبارات ذاتها، لأتفاجأ أنّ النقاش أخذنا إلى مكان سريالي آخر. فقد طلبوا مني أن أعطيهم دليلاً شرعيّاً من القرآن أو السنّة يبيّن أنّ وجود السيارات في صحن الجامع حرام!
ذكرتهم أنّ لا دليل عندي إلا العقل والمصلحة العامة، وأنه يستحيل عليّ أن آتيهم بدليل قطعي من القرآن والسنّة النبوية، لأنه بكل بساطة لم يكن في زمن النبي محمد سيارات دفع رباعي بإطارات كاوتشوكية تدخل ساحات الجوامع! ومن ثمّ فإنّني لا أستطيع أن أقيس على أحكام إدخال البعير والإبل إلي باحات الجوامع، ليس فقط لأن استخداماتها كانت مختلفة عن استخدام هذه السيارات، ولكن لأن البث التلفزيوني بحد ذاته، وكذلك الكهرباء والإضاءة والميكروفونات التي أدخلت إلى الجوامع تباعاً، وغيرها كثير لم يوجد في عهد النبي. وتذكرت ما فعله الملك السعودي الأول عبد العزير آل سعود مع أجدادهم من شيوخ السلفية عندما احتجوا على إدخال الهاتف إلى المملكة كونه بدعةً جديدة وكلّ بدعة في النار بحسب تأويلاتهم العرجاء، فلم يكن من الملك ألا أن أمر بأن يُتّصَل به على الهاتف وأن يُقرأ القرآن من جهة المتّصِل، وأسمعهم تلاوة القرآن من سماعة الهاتف فأُسقِط بيدهم.
المولدات الكهربائية في صحن الجامع
في زيارة جديدة للجامع الأموي، تفاجأت بأنّ سيارات الدفع الرباعي استطابت الوقوف والبقاء صبح مساء في باحة المسجد لأن قنوات البث التلفزيونية قررت خلال شهر رمضان أن تبث مباشرة على الهواء الأذان للصلوات الخمسة من داخل جامع بني أمية في دمشق. لا بل تمّت إحاطتها بموانع وشرائط حديدية منعاً من الاقتراب منها، كما تمّ تزويدها بالكهرباء من مولدات مهترئة يتسرّب منها الزيوت والمازوت على الرخام في باحة المسجد تحت أجمل واجهاته وأكثرها تزيُّناً بالفسيفساء!
الحاجز الفاصل بين النساء والرجال في صحن الجامع
لا بل إنّ أحدهم، من الهيئة أو من إدارة الجامع، قرّر الاستفادة من مدّ الشرائط والأعمدة الحديدية في باحة المسجد الخارجية ليؤسس للفصل بين النساء والرجال داخل صحن الجامع نفسه، فبات الباب الخارجي الواقع في الواجهة الشمالية بجوار قبر صلاح الدين مخصَّصاً لدخول النساء يقودهنّ الى القسم الخاص بهنّ في الفناء الخارجي بعيداً عن الرجال، ومنه الى الجزء الذي كان مخصصاً لهنّ في قاعة الصلاة. طبعاً حاولت مجدّداً أن أذكّر القائمين على إدارة الجامع أنّه إضافة للتشويه البصري والمكاني القائم بفصل صحن الجامع الخارجي إلى قسمين بأشرطة وأعمدة معدنية، فإنّه بعيداً عن فريضة الصلاة، فإنّ لا فصل بين النساء والرجال في الباحات الخارجية لبيوت الله، وأنه لم يسبق في التاريخ أن فُصل بين الرجال والنساء في صحن الجامع الأموي على حد علمي ومعرفتي المتواضعة، وأن النساء يحججنَ ويطفنَ من حول الكعبة في الحرم المكي إلى جانب الرجال، فلماذا تُمنَع العائلات من الدخول سوياً إلى صحن الجامع؟
عائلات في باحة الجامع قبل فصل النساء عن الرجال
جريمة ترميم جديدة
في زيارتي الأخيرة للجامع أواخر شهر رمضان، لاحظت أعمال صيانة وتغييراً للسجاد وترميماً وتنظيفاً ومدّاً للكابلات الكهربائية فوق محراب الجامع الكبير. سألت فنّيّ الكهرباء الذي كان يعمل بمفرده من دون رقابة فنية ويحمل مسدساً كهربائياً ثاقباً يستخدمه للحفر ومدّ الكابلات أعلى المحراب، أين المهندسون والمشرفون عليه، فأجابني أن الفريق المشرف غير متواجد اليوم وقد توجّه إلى حلب للتوقيع على عقد صيانة للجامع الأموي في حلب. وتفاجأتُ أنّ وزارة الأوقاف والمديرية العامة للأوقاف، بإدارتها الجديدة، قامت- بعيداً عن أي شفافية- بتلزيم عمليات الترميم للمسجد الأموي في دمشق لمنظمة إغاثة وتنمية تركية تنشط في سوريا ولبنان وتركيا لمساعدة الفقراء والمحتاجين، اسمها هاند، تأسست في العام 2012 وليس لديها أي خبرة أو نشاط في أعمال الترميم للأماكن الأثرية، فكيف ببناء عمرُه ألفا عام ويزخر بالآثار والأبعاد الرمزية والدينية!
ووفقاً لسعد الدين المؤقت، المدير التنفيذي لمنظمة هاند السورية، فإن المشروع هو لتحسين خدمات المسجد الأموي في دمشق، وذلك بعد ملاحظة تدهور البنية التحتية للمسجد. هدف المشروع هو تفعيل الغرف القديمة، تنظيف المآذن، وتوفير مستلزمات النظافة والمياه الساخنة للوضوء، بالإضافة إلى تحسين الطاقة الشمسية لضمان إضاءة المسجد ليلاً، وكل هذا بمبلغ ضئيل هو مئة ألف دولار تبرّع بها رجل أعمال سوري.
المخيف أن هذه الفرق غير المختصة بالترميم، سُمِح لها بحجة التنظيف بالدخول إلى مخازن الجامع وإلى الأجنحة التي تضمّ الكثير من المخطوطات والآثار التي كان من المفترض أن تُعرَض في متحف الجامع الذي لم يرَ النور الى اليوم! ويبيّن فيديو ترويجيّ لعمل المنظمة في الجامع، وهو منشور على موقعهم على الانترنت، كيف يجري التعامل مع المخطوطات القديمة المرمية الى جانب أكياس القمامة السوداء والأنقاض.
المخطوطات بيد عمّال منظمة «هاند»
طبعاً لم ينسَ القائمون على هذه المنظمة أن يعلّقوا على حائط الجامع الخارجي المطلّ على الساحة الكبيرة أمام المدخل الرئيسي للجامع لافتةً دعائية كتب عليها «معاً نعيد النبض إلى رمز الحضارة»، وتخبرنا اللافتة أنه خلال شهر ونصف- وهي مدة مشروعهم المفترض لما يسمونه صيانة الجامع- سيستعاد نبض الجامع! وعلى ذات الحائط وعلى بعد أمتار قليلة، لا تزال قائمة اللوحة الرخامية الضخمة التي تؤرخ لأعمال الترميم الكارثية التي تمّت في عهد حافظ الأسد، لكن بعد أن أزال عنها نبض الثورة اسم الدكتاتور الراحل.
تركتُ الجامع الأموي على هذه الحالة، ولسان حالي يردّد أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الشهيرة عن دمشق:
مَرَرتُ بِالمَسجِدِ المَحزونِ أَسأَلَهُ هَل في المُصَلّى أَوِ المِحرابِ مَروانُ
تَغَيَّرَ المَسجِدُ المَحزونُ وَاِختَلَفَ عَلى المَنابِرِ أَحرارٌ وَعِبدانُ
فَلا الأَذانُ أَذانٌ في مَنارَتِهِ إِذا تَعالى وَلا الآذانُ آذانُ