المدن، كالأحلام، مصنوعة من الرغبات والخوف. وكلُّ شيءٍ فيها يخفي شيئاً آخر.
إيتالو كالفينو، مدنٌ لامرئية
خط زمني
انتشر فيديو تحرير السجون الأوّل ليل الجمعة 29 تشرين الثاني، من سجن طارق بن زياد في حلب. بعد أسبوعٍ فقط ورد خبرٌ حول اقتراب فصائل المُعارَضة من صيدنايا في ريف دمشق. فجر الأحد سقط النظام، وصباح الأحد انتشر أوّل فيديو لسجيناتٍ محرّرات من داخل سجن صيدنايا. كان معهنّ أطفال. مساء الأحد، انتشر فيديو يظهر كاميرات مُراقبة، قيل أنّها مسلّطة داخل زنازين في السجن ولا يزال فيها نزلاء. صباح الاثنين، أعلن رئيس الدفاع المدني أنّ خمسةَ فرقٍ مختصّة تبحث عن احتمال وجود أقبية سرّية، تزامناً مع قيام سوريّين بهدم جدران وأراضٍ بحثاً عن مدخلٍ مزعومٍ لمكانٍ مجهول. صباح الثلاثاء، أعلن الدفاع المدني انتهاء أعمال البحث، من دون العثور على سراديب إضافية، فيما أعلنت إدارة العمليات العسكرية عن «مكافأة مالية مقابل معلومات حول سجون بشار الأسد السرّية».
في زمنٍ قديمٍ، كان يُروى أنّ الإمبراطور قوبلاي خان قد وسّع مملكة المغول إلى درجةٍ عجز فيها عن أن يرى بنفسه كل الأراضي التي باتت تحت إمرَته. فما كان منه إلّا أن بعث بالرحّالة ماركو بولو لاستكشاف هذه الأراضي، على أن يعود مع تقريرٍ عن مشاهداته. في العام 1972، صنع الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو من هذا التقرير روايةً بعنوان «المدن اللامرئية».
يسرد الرحّالة قصصاً عن مدنٍ لا يعلم الملك إن كانت حقيقية أو من نسج الخيال، كما لا يعلم الرحّالة إن كان الملك يصدّقه حقّاً أو أنّه مستمتعٌ فقط بالسرد. هذه الفجوة بينهما دفعت كالفينو إلى اعتبار هذه المدن مدناً لامرئية، من دون أن يعتبرها مدناً غير موجودة. هي مدنٌ لن تُرى، ولكن سوف *يُشعَر بها*. قد لا تكون موجودة في العالم الحسّي إذاً، لكنّها موجودة في عالمٍ ما. وقد تحوّل هذا المؤلَّف إلى مرجعٍ في عالم الفكشن يتحدّى كالفينو حدود الخيال، ويسرد في كل فصل قصّة مدينة غريبة عجيبة. مثلاً، ثمّة مدينة يُستبدَل فيها الهواء بالوحل، فيشقّ سكّانها طريقهم بالوحل، ويتنفّسون الوحل. ويمكن ملاحظة أنّ ربيع جابر مثلاً، في روايته «بيريتوس مدينة تحت الأرض»، قد نسخ هذه المدينة، حتّى أنّه سمّى سكّانها «ناس الوحل».،
كما في عالم العمارة. درسنا هذا الكتاب في السنة الجامعية الثالثة من هندسة العمارة، وطُلب من كل طالب أن يختار مدينةً من مدن كالفينو، ويستوحي منها، ثم يبني مجسّماً تجريدياً لهذه المدينة.
لا أعلم إن كان الرئيس المخلوع بشّار الأسد (أو والده) يهوى المُطالَعة، ولا أعلم إن كان قد وقع على كتاب «مدن لامرئية»، لكن ما هو أكيد من خلال متابعة الفيديوهات التي انتشرت يوم أمس، من سجن صيدنايا تحديداً، هي أنّ آل الأسد قد شيّدوا في سوريا مدينتهم اللامرئية، التي «يُشعَر بها من دون أن تُرى»، والتي هي «كالأحلام، مصنوعة من الرغبات والخوف. وفيها يخفي كلُّ شيءٍ شيئاً آخر».
بالحقيقة، ليس صعباً أن تخترع مدينتَك اللامرئية. عليك أن تختار معياراً من معايير الحياة «الطبيعية»، وأن تتخيله مخرَّباً: تقول مثلاً في هذا المكان، بدل أن يكون الماء بلا لون، أريده باللون الأحمر. أو مثلاً، بدل أن يعيش الناس فوق الأرض، أريدهم أن يعيشوا تحت الأرض. بدل أن يمشي الزمن إلى الأمام، أريده أن يمشي إلى الخلف، أو أسوأ بعد: أريد تعليقه. وهكذا دواليك.
يمكن لأيٍّ كان أن يخترع في مخيّلته مدينةً لامرئية؛ لكنّك، بالمقابل، تحتاج إلى سلطةٍ كسلطة آل الأسد كي تجعل هذا الخيال حقيقة. وتحتاج بالمقام الأوّل إلى كمّيةٍ مفتوحةٍ من العنف، تخرج عن المألوف في كل حين. ولكن أيضاً، تحتاج إلى آليّات تُبقي على هذه المدن كمدنٍ «لامرئية»، ولو كان الجميع يعلم أنّها موجودة.
في أيّام الأسد الأخيرة، تسارعت الأحداث على كلّ المستويات وعلى امتداد سوريا، لكن اللافت هو أنّ الفيديوهات التي احتلّت أوسع مساحة من النقاش والمشاركة هي فيديوهات السجون وخروج المعتقلين منها. في كلّ يوم وكلّ ساعة، كان يُرفَد الإنترنت بفيديوهات جديدة، من سجونٍ جديدة، مع شهاداتٍ جديدة. وكأنّ الحديث لا يدور عن بلدٍ فيه سجون، بل عن عالمٍ من السجون والمساجين فقط: عن مدينةٍ سجنية. ليس مجازاً القول إنّ آل الأسد قد حوّلوا سوريا إلى سجنٍ كبير. ولكن قبل أن يحقّقوا ذلك بالفعل، كان عليهم أن يتخيّلوا سوريا بهذه الهيئة. أن يصنعوا سجناً من الخيال. وإنّ جولةً واحدة في سجن صيدنايا، توضح كيف شيّدوا في سوريا «مدينةً لامرئية».
في مدينة صيدنايا الموازية، يُلاحَظ مثلاً، من الشهادات والصور والقوانين، أنّ «السكّان» فيها لا يتعرّفون على عالمهم من خلال البصر. المساحات قاتمة، والنظر ممنوع، حتّى لمّا كانت توقع الطمّاشة كان يبقى السجين مغمّض عيونه. من شهادة جمال عبده، معتقل سابق في سجن صيدنايا، وثّقتها منظّمة العفو الدولية. في مدينته اللامرئية، اختار السجّان إلغاء معيار البصر. قالولنا اللي بدّه يكون فاتح عينه بدنا نشلّه ياها. مدينة بلا بصر، ولذلك:
في سجن صيدنايا، يصبح الصوت أداةً يستخدمها السجناء لفهم بيئتهم بسبب الإضاءة الطبيعية المحدودة وتغطية أعينهم باستمرار. علاوةً على ذلك، يُحظَر التحدّث أو إصدار الأصوات، بما في ذلك داخل الزنازين، وكذلك أثناء الضرب. تالياً، يتآلف المساجين مع الأصوات الدقيقة، والتي يمكن بالتالي جمعها بعضها مع بعض لتكوين هندسة المبنى. https://www.archdaily.com/793480/forensic-architecture-digitally-reconstruct-secret-syrian-torture-prison-from-the-memories-of-survivors
تقول شهادة من صيدنايا: صرنا نميّز الطريقة اللي عم يعذبوا فيها المساجين من خلال الصوت، فيما تقول شهادة أخرى أنّ الصوتَ كان عالياً لدرجة بلوغه السماء. من تقرير منظّمة العفو الدولية: «التعذيب، والمرض، والقتل في السجون السورية»، 18 آب 2016 ومن الصعب إعادة قراءة هذه الجملة باعتبارها واقعاً، لا خيالاً.
إلى جانب فيديوهات تحرير السجون، انتشرت فيديوهات لسوريّين يقتحمون ممتلكات آل الأسد، قصر بشّار وغرف نومه وخزائن السيّدة الأولى المخلوعة أسماء الأسد، بل أيضاً سراديب سرّية تحت مبانيه.
عَرضُ فيديوهات الموضوعَين جنباً إلى جنب، يكشف بالوقت نفسه تعارضاً و«تكاملاً» بين مدينة الأسد «الحقيقية»، فوق الأرض، والمدينة الموازية التي صنعها تحت الأرض. كأنّ الصورة الأولى هي الصورة الثانية مقلوبةً، الـ negatif. يكفي مقارنة فوارق الإضاءة بين المكانَين.
ومع ذلك، لا يهمّنا فعلاً المقارنة بين المكانَين، بقدر ما تهمّنا العلاقة بينهما: لو لم يكن المكان الأوّل موجوداً، لما وُجد المكان الثاني، والعكس: قصر الأسد موجود لأنّ الزنازين موجودة – الزنازين موجودة من أجل أن يوجد القصر. ومن خلال المدينة الأولى، يهندس الرئيس مدينته الثانية، من دون أن يتواجد فيها. المفارقة هي أنّ بشّار نفسه قد ربط بين المكانين وأقام التعارض/ التكامل بينهما، عن قصدٍ أو من دون قصد، في مقابلةٍ حول الانتهاكات في سجن صيدنايا:
- هل [التقارير] صحيحة أم لا؟
- كلا كلا ليست صحيحة. قطعاً غير صحيحة.
- كيف تعرف ذلك؟ هل تعلم ماذا يدور في هذا السجن؟ هل قصدتَه من قبل؟
- كلا لم أكن هناك. كنت في القصر الرئاسي. هاهاه… وليس في السجن.
ومن هنا يمكن ملاحظة كم يرغب النظام بإبقاء مدينته المتخيّلة لامرئية، من خلال درجة إصراره على جعل المدينة الفعلية مرئية والتدليل عليها دائماً. تماماً كما يحدث مع الظاهرة التي سمّاها المعارضون «الغسيل الأبيض لنظام الأسد»، والتي تعتمد على التسوّح تحديداً في المدن حيث يرتكب النظام جرائمه، وإظهار الحياة فيها على أنّها تسري بشكلٍ عادي للغاية. تماماً كمن يزرع الخسّ في حديقةٍ ملاصقة لأوشفيتز، أو كمن يقيم حفلاً ساهراً بمحاذاة أكبر معسكر احتجاز على الكوكب.
الإعلامية رانيا خالق مثالاً؛ هذه صورة لها في صيدنايا «العادية» بعد أشهرٍ على صدور تقرير «صيدنايا: المسلخ البشري»:
المفارقة أنّ خالق أرفقت الصورة بتعليقٍ يقول «مشهد يأخذ الأنفاس في سوريا». ومن الصعب إعادة قراءة هذه الجملة باعتبارها واقعاً، لا خيالاً... إنّه «مشهد يأخذ الأنفاس»— حرفياً. بالحقيقة، مثل هذه المشاهد لا تهدف إلى إظهار المكان الموجود بالصورة، بقدر ما تهدف إلى إخفاء المكان غير الموجود فيها. يمكن القول إنّها صورة شبه-حقيقية، كونها تفضح زيفها بنفسها. نعود إلى مدن كالفينو اللامرئية، التي «يُشعَر بها من دون أن تُرى»، و«فيها يخفي كلُّ شيءٍ شيئاً آخر».
تدريجياً نبدأ بفهم سجون الأسد كحيّزٍ (espace) قائمٍ بذاته، كمدينةٍ موازيةٍ بالفعل، وليس فقط كمؤسّسة إدارة وحكم.
إذاً سوف يكون لهذه المدن «أغراضها»، أثاثها، تماماً كما نملك في مدننا المرئية طاولة قهوة وإشارة مرور: المشانق الموضّبة بالأكياس، أقدار الطعام المتّسخة، سجلّات المعتقلين، جورة الحمّام بنّية اللون… ولكنّ الصدمة الأكبر كانت مكبس الإعدام. لا نعلم بعد دقّة الموضوع بحسب معايير التوثيق. شهادةٌ تقول إنّه مجرّد مكبس للخشب، فيما تقول شهادات أخرى إنّه يتّسع لجسدٍ (أو ربّما أكثر)، يوضع فيه السجين مقتولاً (أو ربّما حيّاً)، ويُكبَس حتّى يصبح كالورقة. شهادة تقول إنّه ثمّة مصافٍ أسفل المكبس لتصريف الدم، وتقول شهادة أخرى إنّ الهيئة المتبقّية من الجسد يصبح وزنها كيلوغرامات قليلة، ومن هناك تُرمى في الأسيد حيث تُذوَّب.
هنا انتقى السجّان من الحياة الطبيعية معيار البيولوجيا وطبيعةَ أنّ الجسد ينمو مع الوقت، واختار تخريب هذا المعيار: في مدينته المتخيّلة، تُقلَّل الأجساد إلى حدّها الأقصى. تُكبَس، لا بل تُذَوّب إلى أن تختفي. يتناول الكاتب ياسين الحاج صالح مفهوم «التقليل» بشكلٍ موسّع كأساسٍ في منهج التعذيب الأسدي: «وبعد تقليل الواقعِين تحت التعذيب إلى أصغر الأقلّيات، فرد وحيد، يُعمَل على تقليل هذا القليل بدوره إلى أجزاء أقلّ من واحد. وفي هذا ما يجعل التعذيب المنهج الأنسب للطغيان. [...] يعتمد الحكم الأسدي في بقائه على التعذيب وأجهزته من أجل تكثير نفسه وتقليل محكوميه». ياسين الحاج صالح، علاقات التعذيب السياسية – الفظيع وتمثيله، دار الجديد (2021) وتصبح هذه العملية أشبه بـ«وظيفة»، تحتاج إلى «مهارة» وأدوات وعمّال. في مدينة الأسد إذاً عمّال وموظّفون موازون.
بالمقابل، يتمسّك المساجين بالأثاث الذي يعرفونه من الخارج، يحاولون الإبداع ويصنعون أغراضاً «عادية»، وقد تصل الأمور إلى حد الاكتفاء بصورة الغرض لا الغرض نفسه. هنا مثلاً، رسم أحد نزلاء سجن «فرع فلسطين» مروحةً على السقف.
لا يمكن الكلام عن مدينةٍ بحقّ إن كانت بلا سكّان. باللحظة الأولى، نقول إنّ السكّان هنا هم المساجين، لا سيّما أنّ نسبةً كبيرة منهم لم تخضع لأيّ مُحاكمات عادلة ولا تُعرَف مدّة احتجازهم. قد يبقون في السجن طيلة حياتهم، لا سيّما وأنّ «حياتهم» تصبح مدّة زمنية يحدّدها السجّان نفسه. مرّةً جديدة، من الصعب التعامل مع هذه العبارة كواقع، لا كمجاز، واقع أنّ سجناء نظام الأسد «يسكنون» السجون. لكن باللحظة الثانية، ثمّة فئة أخرى من «سكّان» هذه المدينة، وهي المخفيّون قسرياً، والبالغ عددهم في سوريا 113,218. 113 ألفاً. شعبٌ بأكمله.
في مقابلةٍ حديثة للحقوقيّ فضل عبد الغني، يذكر أنّ هذا هو الرقم المسجَّل فقط، والتقديرات تُشير إلى أنّ الرقم الفعلي هو ضعف ذلك، أي تقريباً 200 ألف مخفيّ قسرياً. ويشير عبد الغني إلى أنّ هذا هو رقم فترة النزاع السوري، أمّا الآن وقد سقط النظام، وقد تحرّرت السجون، وقد خرج منها آلاف المعتقلين، فإنّ بعض هؤلاء المعتقلين كانوا في عداد المخفيين قسرياً وكُشف مصيرهم الآن. ولكنّ هؤلاء هم الأقلية. تبقى الأغلبية مجهولة المصير، وسيتمّ التعرّف على عددٍ إضافي في الأيّام المقبلة في المقابر الجماعية وبرّادات المستشفيات. إلى هنا، لا توجد أرقام واضحة بعد. من باب الحشرية، بحثتُ عن مساحة سوريا البلد، وتبيّن أنّها 185,180 كيلومتراً مربّعاً، وقلتُ أحتسب النسبة بين الرقمَين، والتي يمكن أن نسمّيها اصطلاحاً «كثافة الفقدان» بالضدّ من الكثافة السكّانية، ليتبيّن أنّها تُقارب 1 مفقود/ كم2. يا سبحان الله، هي نفس «كثافة الفقدان» في لبنان.
هنا خطا السجّان فشخةً إضافيةً في عالم الخيال، واختار معيار «الوجود» نفسه، وقرّر قلبَه: في مدينة الأسد اللامرئية، السكّان موجودون، لكنّهم مخفيّون، بالوقت نفسه. ومرّةً أُخرى، من الصعب التفكير بهذه العبارة كواقع، لا خيال.
تجدر الإشارة إلى أنّه في حالتنا، اقتيد سكّان المدينة اللامرئية إليها من مدينتهم المرئية، مع الإشارة إلى أنّ عدداً من سكّان هذه المدينة السجنية لم يتمّ اقتيادهم من أي مكان، بل وُلدوا فيها، غالباً بعد جريمة اغتصاب سجينة. أي أنّهم أُخضعوا إلى عملية عبور من مكانٍ إلى آخر، ونُقلوا من وضعيةٍ اجتماعيةٍ إلى أخرى. وهذا ما كان يترافق عادةً، في المدن القديمة، مع ما يُسمّى «طقساً للعبور» (rites de passage). مدينة الأسد الموازية لا تخلو من هذه الطقوس. فعند وصول معتقلين جدد، يُرحَّب بهم في المدينة الجديدة بما يُعرف باسم «تشريفة السجن»، الوِلكوم بارتي بالإنجليزية، وهذا طقسٌ للعبور بالمعنى الحرفيّ للكلمة.
يبدو لافتاً كم تتضمّن مدينة الأسد السجنية عناصر من عناصر الاجتماع التأسيسية. ليس فقط الطقوس، بل تقوم هذه المدينة أيضاً على دينٍ وإلهٍ خاصّ بها. وهذا ما لا يحتاج إلى شرحٍ طويل، عبارة «مين ربّك ولك؟» تكفي. وعبارات أخرى لشبّيحة الأسد في سياق التعذيب، تُظهر بشكلٍ فاقع الإصرار إلى تحويل بشّار الأسد إلى إله.
البعد الديني للمدينة الموازية لا يقف عند بشّار-الإله، بل نجد مثلاً أنّ أحد السجون اسمه «الجحيم»، وأنّ أحد السجّانين قد سمّى نفسه عزرائيل. وبحسب شهادةٍ للمعتقل الشهيد مازن حمّادة، فإنّ عزرائيل هذا عنده عصاية حديد الها دبابيس. ويقلّه [للسجين] بالحرف: حكَمَتْ عَليك المحكمة الإلهية بالموت. ويضلّ يضرب فيه ضل يضرب فيه ضل يضرب فيه لينفدع راسه.
كل تفصيلٍ في هذا العالم يسند واقع أنّ نظام الأسد قد أسّس إلى جانب مدنه المكشوفة مدناً سجنيةً بالمعنى الدقيق لكلمة «مدينة». عالمٌ موازٍ، ومع الوقت، انغمس صغار الجلّادين فيه إلى درجةٍ فضّلوه عندها على المدينة الفعلية الفوق-أرضية. وهذا ما كان يتردّد صداه في عبارة «الأسد أو نحرق البلد».
هذا الاستعداد لإحراق البلد الفعلي، من أجل الحفاظ على مدن الأسد والحكم الأسدي.
هذه الرغبة لتوسيع المدينة الموازية على حساب تقليل المدينة الفعلية.
هذه الرغبة لتعميم اللامرئي على حساب المرئي.
ما حصل اليوم (وفي السنين الـ13 الأخيرة)، لم يكن تحرير سوريا من سطوة آل الأسد وحسب، بل كان أيضاً كشفاً عن سوريا لامرئية. لامرئية، رغم أنّ السوريّين كانوا يرونها يومياً، ورغم أنّهم اجتهدوا وناضلوا حتّى الشهادة من أجل فضحها في زمنٍ سابق، منذ أيّام حافظ الأسد.
هكذا كانت مدن الأسد إذاً. مدنٌ لا عصافير فيها. لا شمس. لا نور. بصرٌ محجوب وجدرانٌ تَسمع. كلّ شيء فيها مقلوب. ولخمسة عقودٍ كان الكلام عنها محظوراً، تحت طائلة الاحتجاز فيها. كان «يُشعَر بها من دون أن تُرى». كانت كالأحلام— والأدقّ كالكوابيس، مصنوعة من الرغبات والخوف. رغبات السجّان وخوف السجين. ولكن أيضاً شجاعته. فإن كان الأسد قد حوّل خياله السجني إلى واقع، فإنّ الشعب السوري قد حوّل بدوره حلم الحرية إلى واقع. واقع لا يُقبَل أن يُشكَّك به تحت حجّة الخيال أو المُجرَّد أو المشاعر، كما يكتب سامر فرنجية في مقال، للمفارقة، عنوانه «مدينة تلو أخرى»:
تبقى الحرية من السجون معياراً، مادياً، فعلياً، حقيقياً، الشرط الأساسي للبدء بالتفكير بأي مستقبل. فما هي الثورة إن لم تكن بأبسط تجلياتها، أناساً يطالبون ببعض حقهم في الوجود؟ وما هي الأنظمة، إن لم تكن عائلات حاكمة سخّرت البلاد لها؟ والسجون هي الرابط بينهما. قبل القلق المشروع على المستقبل، علينا القبول بتلك «البساطة» السياسية، بحق الشعوب بالحياة ووقاحة الأنظمة العربية.