عوي ولاك، عوي
مقاتل لابطاً رجلاً مدنياً
أتيناكم يا أحفاد القردة والخنازير
مقاتل ملتحٍ في فيديو
خنازير كلاب، تازة
مقاتل يصوّر لصديقه جثثاً أُعدمت لتوّها
تحت أشعة الشمس، ورغم العطش والجوع في شهر رمضان، فإن الجزارين لم يشبعهم على ما بدا في المشاهد الموثّقة، سوى الدم. كانوا يهلّلون حين يرون الدم النافر من الأجساد المرتعدة خوفاً. يكبّرون تكبيرات بأصوات غاضبة ومنتشية وينشدون ويستهزئون من ضحاياهم الذين كانوا عزّلاً بلا سلاح. كان سعار الجزارين يعلو حين يجدون الجثث أمامهم هامدة. ملطخة بدمها، فيزيدون من رصاصهم. طلقة. اثنتان. ثلاثة في الجسد الهامد. الميت. بلباسه العادي في يومياته العادية. ثم يرشقون رشقاً طويلاً، مديداً، لا يعرف عدد رصاصاته مبتهجين. رشق ترافقه شتائم وآيات وأحاديث شريفة، مسندة وغير مسندة، وضحكات هستيرية، وهم يرددون بالحب نعمرها. وهو حب على ما ظهر بوحشيته الدموية تلك، بسيكوباتياً، تجيشه لذة الانتقام والسادية.
وبدا أن هؤلاء الجهاديين، رغم دخولهم جيشاً وطنياً والانضواء في صفوفه، لم تُثبّت في عقولهم من أسماء الله الحسنى وهم يكبّرون له، إلا «المنتقم». فكانوا يصبون إلى الانتقام بالتماهي. ومع هذا التماهي بالانتقام، كانت الجثة أمامهم أداة للتنكيل. أداة للهو جنوني، كأنهم داخل لعبة فيديو. لغطرسة مجانية. تُضرب الجثث وتُهان وتُلبط بالأقدام التي انتعلت أحذية عسكرية، ضخمة، وسخة. تُقتل الجثة مراراً أمام عيونهم وبأسلحتهم وهم يزيدون من صياحهم الاحتفالي. والجثث غارقة بدمها الذي لم ينشف بعد. ثم تهشم رؤوسها. بأعقاب الكلاشينكوفات والأسلحة وبالحقد الذي تبرره مصطلحاتهم وهي تخرج من أفواههم عالية وممطوطة. تسب الجثث الموزعة بين البساتين وخلف البيوت وفي الغرف وفي جنبات الطرقات وقرب الشجر. تشتم ويشتم أهلها وسليلتها. يُبصق عليها. تتحوّل هذه الجثث المنكّل بها إلى وليمة سعار لجوع متوحش للانتقام. للصراخ. للنشوة. لانتصار واهم، انتصار للجهل المقدس. ذاك الجهل الذي لا نقاش فيه، فهو أقرب الى الألوهية. فهؤلاء في اعدامهم المدنيين، صاغوا تقديساً لأفعالهم بربطها بالجهاد والنصر الإلهي، على ما فعل حزب الله في مجازره وتعفيشه في سوريا. «وإن ينصركم الله فلا غالب لكم»، هذا ما ردّده مقاتل شاب في يفاعته، فيما يدكّ مقاتل آخر ظهور المدنيين العلويين بجذع شجرة وهم يزحفون وراء بعضهم بخوف ذليل. كأننا نتفرج على فيلم هوليوودي لكن بإنتاج بخس، أو كأننا أمام كابوس لا يحدث الا في نوم سيّئ جداً.
جوعى الدم
مع هذا السعار كانت الجثث المكوّمة فوق بعضها، تصير أداة «كوميدية» للمقاتلين الجوعى. بدا أن جوعهم هذا قديم وعميق ومتجذّر. تزيد من شراسته رائحة الدم وأرتال الجثث فوق بعضها وأجساد الأسرى المكومة في الشاحنات وحرائق البيوت والمحلات الصغيرة والقرى الوادعة. وتزيد من فخرهم بذواتهم المتوحشة وهم ينقلون هذه الصور والمشاهد، بعدسات هواتفهم الذكية. يريدون لهذا العالم أن يراهم. لم يعد مهمّاً أن يضعوا لثاماً ولم يعد مهمّاً ان يخفوا هوياتهم. ولو لساعات. هم يفخرون بانتصارهم هذا، ولو لساعات. هم هكذا يقفون أمام نصرهم الدموي ويرقصون على جثثه. أمام مجزرتهم يوثقون انتقامهم الذي لا بد أنه نتاج نظام مستبد ونتيجة ولادتهم تحت مقصلته ورهابه ومقتلته وبراميله وقذائفه متغذّين من سردية عنفه وصدماتها. فمعظم مَن أظهرتهم هذه الفيديوهات لا يبلغون الثلاثين سنة. شبان دفنت أيامهم تحت الحرب وتحت مجازر النظام بأهلهم وسكان مناطقهم. فكانت هذه الوليمة والعرس الدموي طريقتهم الوحيدة بعد ثلاثة أشهر من التحرير، ليُخرجوا ولعهم بالثأر.
هي نقمة كان لا بدّ لنظام أحمد الشرع أن يسارع إلى لجمها ولجم هذه الفصائل الصغيرة عن ارتكاب مجازر الانتقام الطليقة. وهي فصائل تضمّ شباناً كانوا ضحايا وجزّارين في وقت واحد. ضحايا جنون التعصّب والطائفية، ونتاج شعورهم بأنّ لا دولة ستحاسبهم. فالشرع يرث شبح دولة وأنقاض جيش متهالك. وهؤلاء المسعورون صاروا بظنّهم «الدولة». الدولة التي عرفوها أمنية وقاتلة ومتوحشة، وصاروا على هيئتها وصورتها. وهم يعرفون أن لا قدرة للأمن العام في السيطرة عليهم. وأن هذه الهيئة تتواطأ معهم، بشكل أو بآخر، بقصد أو من دون قصد. تغض النظر ولو قليلاً، ولو لساعات. فحصل ما حصل. وأن هذه الهيئة كي ترد على ما فعله فلول النظام، كان لا بد للعقاب أن يكون جماعياً، عشوائياً وبأيدي هذه المجموعات الهستيرية الجائعة، ضد علويّي الساحل. فهم، أي العلويّون، في مخيلة هذه الفصائل الجهادية، ليسوا إلا أدوات النظام السابق ومشاركين في أعماله ومجازره. فلم يفرّقوا بين فلول ومدنيين. هذا العقاب المفتوح على الدم، لن يسهّل مهمّة السوريين اليوم في إنتاج حوارهم ولا في تفعيل مفاتيح المرحلة القادمة، لا بل سيعقّد مهمة أحمد الشرع وسيعقّد إمكانات الثقة المتبادلة وترسيخها بين المكوّنات السورية، خصوصاً في هذا الوضع الهشّ، وسيعقّد حتماً ثقة الأكراد والدروز بالحكم الحالي وبالحكومة الانتقالية وجيشها الذي بدا منذ مجازر الخميس الماضي، أكثر من جيش وأكثر من قيادة.
إعادة إنتاج النظام السابق
كانت هذه الساعات كافية كي تُمشَّط قرى العلويين ويُنحَر أهلها. وهي كانت كافية كي يوأد أمل التعايش السوري. وهي ساعات كافية ليظهر الحقد الذي تربّى عليه هؤلاء، والغضب الذي يعيش في امعائهم وعيونهم وبين جنباتهم، والعصبية التي يتغذّون منها وتغذّي أجسادهم المتوترة وتغذي مخيلتهم عن انتصاراتهم الإلهية وأحلامهم بجنّات الخلد والنعيم. فهم يعيشون واقعاً بين استبداد النظام السابق وتركته الهائلة في نفوسهم، وبين عدالة إلهية، يحلمون بها ويحققون بأيديهم (على ما يعتقدون) وبسلاحهم، بعضاً منها.
فهم أولاد المقتلة وأولاد المحرقة، وها هم يعيدون أساليبها وتقنياتها لكن تجاه سوريين مدنيين لا مسلحين ولا مقاتلين ولا فلول. ورغم أن المستفيد الكبير من كل هذا هو النظام البائد وفلوله، وهو الذي أراد دوماً أن يبرهن للعالم أنه يحمي الأقلية العلوية من التوحش السني، فإن أقلية من السنة (فهؤلاء لا يمثلون سنّة سوريا، بل هم جهاديون ومرتزقة ينتمون إلى المذهب السني)، وهم أفراد في عصابات ميليشيوية، لم تدجَّن بعد في جيش دولة تخرج لتوّها من الاستبداد والانهيار. وقام هؤلاء بخدمة سردية نظام البراميل بأن أقدموا على السيناريو الذي كان مؤجلاً، وخوفه كان مؤجلاً عند معظم السوريين، والآن صار محققاً غارقاً بالدم والى الأبد. لكن الفرصة قائمة للاعتذار ولتحقيق العدالة.
وكان طبيعياً أن نسمع عن إقدام السوريين السنّة على إنقاذ العلويين وبمساعدة من ضابط في هيئة التحرير، وبحمايتهم في بيوتهم وشققهم، وتأمين طرقهم للهرب. والعلويون، رغم مقتلتهم، بقي أملهم بالحكم الجديد، ولو حذراً. لم نسمعهم ينادون على الفلول كي ينقذوهم. لم يطالبوا غياث دلا ومحمد جابر ومقداد فتيحة وسهيل الحسن، أبرز قتلة النظام وفلوله الذين قاموا بقتل قوات الأمن السوري ليلة الخميس السوداء، وفتحوا النار على هذا الجحيم الدموي الذي رأيناه. بل طالبوا دولتهم، رغم عللها وهشاشتها، بحمايتهم. كانت أولى رسائل العلويين بعد مقتل أهلهم وأصدقائهم وأمهاتهم وأولادهم، أن طالبوا الشرع بالتدخل، والهيئة بفرض وبسط قوة الدولة. الدولة لا الفلول. وكان الشرع أن شكل لجنة، نأمل أن تحقق العدالة وتُسهم في ردم هذا الشرخ الذي إن لم يتمّ التعامل معه بجدية وبحزم، فإنه سيُدخل سوريا في أتون حرب أهلية وطائفية واسعة. وسيكون لها تردداتها في لبنان، خصوصاً في طرابلس. وقد يحرك خاصرتها الرخوة وخطوط التماس الخامدة بين التبانة (غالبية سنية) وجبل محسن (غالبية علوية)، وقد يفتح حراكاً طائفياً في عكار، بعد لجوء أكثر من خمسة آلاف نازح علوي إلى قرى المسعودية والحيصة والريحانية والدغلة والبربارة وعين الزيت وحنيدر وحكر الضاهري.
النجس لتبرير الانتقام
اللافت أنّ مصطلحات القتل العمد والتصفية الجماعية والإهانة والتجريح، التي مارسها هؤلاء المقاتلون الجهاديون تم استدعاؤها من عالم الحيوان، كي تبرّر قتل ضحاياها. فمن الجمل التي تكرّرت في الفيديوهات المنتشرة، أن يتم ضرب وسحل الضحايا الأحياء قبل تصفيتهم، والجثث بعد قتلها، ونعتهم بالخنازير وبأحفاد القردة أو بأمرهم بأن يعووا مثل الكلاب. وما هذا الاستدعاء اللغوي إلا تبرير لفعل القتل، باعتبار الضحايا لا ينتمون الى البشر، بل إلى الحيوان الذي يستحق القتل، وحين يُقتل لا يُحزَن عليه، فهو حيوان، دنس. لهذا، كثيراً ما نسمع بكلمتَي الخنزير والكلب اللذين يُعدّان في الثقافة الإسلامية، حيوانَيْن دنسَيْن. وهاتان الكلمتان، في إحالتهما الدلالية لغوياً ولفظياً، لهما معنى واحد هو أنّ ما مات صار «فطيسة». لا يجوز البكاء عليه ولا الترحم عليه. وهو رجس. والرجس هو ما لا خير فيه، أو من عمل الشيطان وإثم ونتن، في تفسير الطبري، أو النجس في تفسير القرطبي. ولهذا، فإنّ لصق هاتين المفردتين على الجثث المقتولة، يزيل عنها صفة الأنسنة الطاهرة. فتتحوّل في عقيدة هؤلاء إلى مجرّد أجساد نجسة، نتنة، شيطانية، مصدر للشر المطلق، وقتلها واجب ديني، وواجب أصولي. ومن هنا، يزيح هؤلاء عنهم شعور الذنب، ويطلقون سعارهم الاحتفالي، في إقدامهم على عمل فيه الخير، وانتصار على الشر.