تعليق سوريا
طارق أبي سمرا

الرعب والهزل في المشرق العربي

17 آذار 2025

كثيراً ما ننسى في أيّ بقعةٍ غرائبيّةٍ من العالم نحيا، نحن سكّان المشرق العربي. ولعلّ هذا النسيان طبيعيٌّ، فمَن ذا الذي يريد أن يُحدِّق يوميّاً في غرائبيّةِ حياته ومحيطه، وهي غرائبيّةٌ لا يُعثَر عليها عادةً إلا في الأدب، وتتألّف مِن مزيج مُربِك ومتناقض مِن الرعب والهزل؟

ثلاثة أمثلة راهنة، من سوريا ولبنان وفلسطين، قد تكون كافية لرسم ملامح هذه الغرائبيّة.


سوريا

القصر [قصر الشعب] بالنسبة لي، يضيق صدري فيه يقول الرئيس السوري أحمد الشرع في مقطع مصوَّر من مقابلة مع وكالة «رويترز». ويتابع شارحاً: أستغرب كيف كان يخرج منه كلّ هذا الشرّ تجاه هذا المجتمع... القصر أنا عازم على تحويله أن يصدر منه خير كبير لسوريا. وحتّى أحببت أن يشاركني فيه أطفال المدارس، أن يأتوا إليّ زيارةً وسياحةً ويتعرّفوا عليّ.

قيل هذا الكلام في 10 آذار الجاري، أي بعد أربعة أيّامٍ دمويّة ارتُكِبت فيها مجازر مُروِّعة في منطقة الساحل السوري، وهي مجازر ترقى إلى الإبادة الجماعيّة، راح ضحيّتها ما لا يقلّ عن 1400 مدنيّ، أغلبهم من الطائفة العلويّة.

ومَن قال هذا الكلام (أي أحمد الشرع) هو الذي تقع عليه مسؤوليّة هذه المجازر، حتّى لو لم يُرِد حصولها، وأيّاً تكن «الفصائل» (المنضبطة أم غير المنضبطة) التي ارتكبتها. فقائل هذا الكلام هو رئيس البلاد، وهو الذي أمر بإطلاق عمليّة عسكريّة في الساحل السوري، وهو الذي وصف المجازر بأنها تجاوزات «متوقّعة».

ليس مستغرباً أن يسعى الشرع إلى التنصّل من مسؤولية المجازر التي ارتُكِبت، فهذا على الأرجح ما كان سيفعله أيّ شخص لو وجد نفسه في الموقف ذاته. لكنّ الشرع لا يكتفي بذلك، بل يُمعِن في تتفيه ما جرى كما لو أنّه مجرّد حادث ثانويٍّ عابرٍ يمكن نسيانه بسرعة وسهولة. إذ كيف يُفهَم كلامه الورديّ عن الخير والشر، وعن أحاسيسه المرهفة، وعن الأطفال الذين يودّ أن يُعرِّفهم على نفسه، وهو كلام قيل فيما المجازر لم تتوقّف بعدُ... كيف يُفهَم سوى أنّه إمعانٌ في تتفيه القتل الجماعي، والإعدامات الميدانية، والإذلال، والتعذيب، ورمي الجثث في الشوارع؟

تتفيهٌ وليس إنكاراً، فالإنكار غير ممكن، وقد يكون أصلاً غير مرغوب. فالجرائم وثّقها القتلة أنفسهم، وأرادوا لصوَرها أن تنتشر على أوسع نطاق. أرادوا بثّ الرعب في نفوس العلويين وغيرهم من الأقليات، وفي نفوس الجميع أيضاً. ثمّ أتى أحمد الشرع، المقاتل السابق في تنظيم القاعدة، وباح للسوريين بمشاعره الرقيقة والنبيلة، فغلّف الرعب بغشاء من الهزل.


لبنان

في مقابلته الأولى على قناة «المنار» (9 آذار الجاري) منذ انتخابه أميناً عاماً لحزب الله، قال نعيم قاسم إنّ كلام رئيس الجمهوريّة جوزاف عون عن حصريّة السلاح بيد الدولة ليس موجّهاً ضدّ الحزب. قال ذلك مع أنّه يعلم يقيناً، مثلما يعلم جميع مَن شاهدوا المقابلة، أنّ عون يقصد بكلامه سلاح حزب الله بالتحديد.

السؤال البديهي هو إذاً: لماذا قال قاسم ما قاله؟ هل كان يريد إنكار واقعٍ ما؟ ربّما كانت تلك نيّته الواعية، لكنّ أغلب الظنّ أنّ كلامه نابعٌ ممّا يمكن تسميته بالهزل اللاإرادي. هزلٌ اتّسمت به مواقف حزب الله خلال الحرب الأخيرة وبعدها. 

من بين هذه المواقف، اعتبار أنّ الحرب المفتوحة التي شنّتها إسرائيل على لبنان لم تكن مرتبطة بحرب الإسناد التي سبقتها، بل كانت ستندلع بغضّ النظر عمّا فعله الحزب أو لم يفعله. وبهذا، يكون الحزب قد ألغى مبدأ السببيّة عن بكرة أبيه.

موقف آخر لا يقلّ غرائبيّة: إعلانُ نصرٍ لم يُصدِّقه أحد– لا حزب الله، ولا جمهوره، ولا خصومه اللبنانيّون، ولا إسرائيل، ولا الولايات المتحدّة. ذاك أنّ الهزيمة كانت مدوّية لا لبس فيها. يكفي أن ننظر إلى حجم الدمار، أو عدد القتلى، أو ما حلّ بالحزب نفسه، من تصفيةِ قياداته إلى تقزيم قدراته العسكريّة.

هل يمكن إدراج هذه المواقف الثلاثة (إعلان النصر، إلغاء العلاقة السببيّة بين حرب الإسناد والحرب المفتوحة، اعتبار أنّ الحديث عن حصريّة السلاح ليس موجّهاً إلى حزب الله) في خانة الإنكار؟ إنّه إنكارٌ شكليّ فحسب، أي أنّ لا أحد يصدّقه ولا حتّى يأخذه على محمل الجدّ، لا المتكلّم ولا المُتلقّي. إنكارٌ شكليّ وظيفته تسخيف ما حصل: تتفيه الحرب ونتائجها لجعلها بلا وزن، وكأنّها حادث عابر ينبغي طيّ صفحته بسرعة. إنّه هزل لاإراديٌّ (أو ربّما يكون إراديّاً، فمن ذا الذي يعلم ما في دواخل النفوس) يزيد من رعب الواقع رعباً، إذ يجعله أشبه بمزحة سمجة. 


فلسطين

قبل حوالي ثلاثة أسابيع، نشر الرئيس الأميركي دونالد ترامب على حسابه في منصّة «تروث سوشال» ما بدا أنّه مقطع ترويجيّ لخطّته الرامية إلى استثمار غزّة وتحويلها إلى منتجع سياحيّ ضخم– وذلك بعد تهجير الغزاويين بطبيعة الحال. في هذا الفيديو الذي أُنتِج باستخدام الذكاء الاصطناعي، نرى غزّة وقد تحوّلت بلمح البصر من أكوام ركام إلى ما يُشبه بعض مدن الخليج: ناطحات سحاب وفنادق فاخرة، تمثال ذهبي لترامب، وإيلون ماسك يتناول الحمص على شاطئ خلّاب. سماءٌ تمطر أوراقاً نقديّة. وأخيراً، نرى ترامب ونتنياهو مستلقيَيْن قرب حوض سباحة يشربان الكوكتيلات.

وهذا المقطع الذي أثار موجة استنكار واسعة، تبيّن لاحقاً أنّ هدفه كان السخرية من ترامب وأفكاره التي تتّسم بجنون العظمة، حسبما قال أحدّ صنّاع الفيديو.

الواقعة هذه تنطوي إذاً على سوء فهم صارخ: مزحة ساخرة لم تُفهم على أنّها كذلك. لا بل أنّ ترامب رأى في الفيديو تجسيداً أميناً ودقيقاً لأفكاره وتصوراته عن مستقبل غزّة، فنشره. أمّا مَن شاهدوا المقطع واستنكروه، فلم يخطر لهم، ولو لوهلة، أنّ غايته قد تكون السخرية من ترامب.

الجميع صدّق المزحة، ذاك أنّها ليست بعيدةً لا عن هلوسات ترامب ولا عن واقع المشرق العربي. فأنّ تُشَنّ حربٌ إباديّة على مرأى من العالم كلّه، ثمّ أنّ يُهجَّر مَن نجا منها لكي تُحوَّل بلادُه المدمَّرة إلى منتجع سياحي يملكه رئيس الولايات المتحدة، فهذا ممّا يُستنكَر ويُستهجَن ويثير السخط، لكنّه ليس ممّا لا يصدّق أو ممّا يستحيل حصوله.


لا حدَّ فاصلاً بين الرعب والهزل في المشرق العربي. إنّنا سجناءُ نكتةٍ سمجة تُسخِّف كلّ شيء وتجعله بلا وزن: المجازر الطائفيّة، الحروب المدمِّرة، الإبادات الجماعيّة...

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

الرعب والهزل في المشرق العربي

طارق أبي سمرا
4 شهداء في قصف إسرائيلي على جنوب لبنان
حماة تغنّي للحريّة في ذكرى الثورة السوريّة 
حمص: عاصمة الثورة تحتفل بالحريّة
وليد جنبلاط في ذكرى اغتيال والده: احذروا التقسيم وتحالف الأقليات
في المربَّع الأحمر
نص

في المربَّع الأحمر

هلال شومان