أخيراً أنا مستعدّة للمغادرة الآن. لم أكن مستعدّة الأسبوع الماضي، ولا الذي قبله. لهذا كنت أؤجّل سفري إلى الإمارات كلّ أسبوع إلى الذي يليه. كانت بيروت في فترة إقفال تامّ، وكانت قد فَقدت ملامحها التي عهدتُ تقريباً بشكل كامل. الطقس كان رمادياً والسماء لا تلبث تزرقّ حتّى تعودَ لتَكفهِرّ كأنّها تذكّرنا بحقيقة ما أضحت عليه المدينة: خانقةً وفي فترة ركود.
حان إذًا وقت أن نكفّ عن الانتظار وأن نمضي قدمًا.
هذه المدينة لم يعد لديها ما تعطيكِ ألفة. هَيْ هِيِّي. خِلْصِت. هلّق رَحْ تضل بس هيك ويمكن صار وقت تفِلّي.
هكذا كان رد صديقتي حين بادرتُ بروايتي المتكرّرة عن عدم الاستعداد للمغادرة، أساساً لأنّ بيروت هي المدينة التي اخترت طوعًا أن تحتويني. وأحتويها. أنا أعتبر السنوات الذي قضيتها هنا– هناك– هي وقت أمضيته في التعرّف إلى نفسي وإصباحي ما أنا عليه الآن فكريًا واجتماعيًا.
كانت بيروت هي المدينة التي احتضنتني حين تركت مدينتي بجنوب تونس.
أقضي بعض الشهور ببيروت للدراسة، وعطلي أقضّيها بقابس. لا أنكر أنّ علاقتي بالأخيرة كانت تتغيّر مع كل سفرة. قابس هي المدينة البطيئة في نسقها اليومي، السهلة في تقسيمها العمراني، والبسيطة في علاقاتها الاجتماعية. هناك يتكلّم الكل لهجتي، وخيارات المقاهي التي نرتادها ثلاثة لا رابع لها. يعرفني المندوب الجهوي للثقافة، وأطباء المستشفى هم اصحابي من المدرسة. الكل يعرف امّي ولا أستصعب أن أجد ميكانيكيّا لإصلاح السيارة إن تطلّب الأمر. فيها من الألفة ما يريح. هذا التوق الى الاستسلام للمدينة ولنسقها المغرق في البطء بات أكثر ما يربطني بها مع كل سفرة. كلّنا نتوق للخضوع لقوانين فيزيائية كهذه شديدة التناقض مع فوضى بيروت وهرولتها. أكاد احلف انّي كنت اتنقّل بين زمنين اثنين لا يمتّ الواحد منهما بصلة للثاني. أعود إلى قابس فأعيد شحن لساني الذي تبلّد من تكلم لغة غير لغته. أخبر رفيقتي بعد تمعّن طويل في عجزي عن الإفصاح عن أفكاري بسهولة. أظن أن صعوبة استرسالي بالكلام سببها دماغي الصغير الذي تعب من لعب دور المترجم، وأحيانًا أودّ فقط ان أعفيه من هذه الوظيفة المجحفة، فأسكت.
قابس هي المكان الذي ينطلق فيه لساني دون قيود اللغة، لكن في محاولات تبوء أخيراً بالفشل، مع الأسف. يسافر جميع اصحابي الى العاصمة تونس او خارج البلاد للدراسة، وتُهجَر المدينة، وأفقد أنا مرجعيتي الاجتماعية وقدرتي على الحفاظ على علاقات سابقة أو على الانخراط في دوائر اجتماعية تُشبع فضولي وتتماشى مع اهتماماتي. لا أنكر احتمال أن يكون هذا الانقطاع كامناً في «قلّة قلقي» وكسلي وقت وجودي في المدينة، لكن ينتهي المطاف في كل مرّة بإنسلاخي وذبول علاقتي بالمدينة بذبول هذا التواصل مع ناس يتكلمون لغتي ويعيشون في سياق ترعرعت فيه. لربّما كان هذا تماماً سبب التباعد التدريجي. فأنا قد هاجرت. وبهجرتي هذه أخذت الحب الذي أُعْطيتُ والحرية شبه المطلقة– الى ما استطاع اليه السياق سبيلا– ومضيت اكتشف أوجهاً أخرى للحياة وتوجّهات فكرية وأنواعاً اجتماعية لم أعهد وجودها في الكيلومترات القليلة التي كبرت فيها.
أتيتُ إلى بيروت، المدينة التي تحتضنني، تملؤني وتفتح فيّ أعيُناً طال منامها. هناك بدأت أبلور إدراكي لمفاهيم كالوطن والانتماء.
ارتبط الوطن طوال سنوات بتحية العلم التي تسبق صفوف المدرسة الثامنة صباحاً، والتي كنت احرص ألّا أفوّتها، بل أنّي كنت أتطوّع حتى لرفع العلم وسط ساحة المدرسة وأنشد «حماة الحمى»، النشيد الوطني التونسي، بكل فخر وخشوع. كان الوطن أيضاً يتجسّد في إصراري على تذكير نفسي ومَن حولي أنني سأسافر للدراسة وأعود بعدها للعمل هنا والمساهمة في بناء «وطن» وإصلاح ما نتفق كلنا أنّه يلزم إصلاحاً. هكذا كان وعدنا نحن الصغار الحالمين الذين درسوا توّاً عن هجرة الأدمغة بدرس الجغرافيا وأصبح الكل يرى في نفسه الكفاءة التي تذهب لتدرس بكليات الهندسة الفرنسية وتعود لإنقاذ السفينة، بكل ما أٌوتينا من سذاجة واندفاع.
أظنني كبرت في بيروت. وفهمت أن ما تعلمنا عن الوطن هو تصوير رومنطيقي لما هو حقيقة مفهوم قائم على رسم عشوائي للحدود من قبل قوى امبريالية لم تفكر مرتين في خصوصيات المجتمعات القاطنة داخل هذه الحدود. وأن الانتماء ما هو الا للناس وللتجارب المشتركة التي تجمعهم/نا.
هكذا أيضاً أخبر أمي في مكالمة هاتفية مطوّلة عمّا عناه الفصل الأول من غربتي في بيروت.
أصارحها بهذه التغيرات والتوجهات التي اخترت تبنّيها مردّدةً ان اللغة هي ربط ثابت بالبلد الأم وانني مهما حلّقت سيظلّ جانب مني يتوق الى هذه السلاسة مهما تمكّنت من لغات ثانية وثالثة ورابعة. كأنني بي أُطمئنها بأنني لم أطر كليّا وأنني سأظل أحوم، دون رسوّ ربما، في سمائهم... أنا هنا أعي اختلاف تجربتي في الغربة عن تجربة أصحاب انتهى بهم المطاف في المانيا، أو أسوأ، في بلدان ابجدية لغتها غير مألوفة كبلدان شرق أوروبا حيث حروف الأبجدية تبعث على القلق في التباسها وشذوذها، وحيث الطلاسم في محطة المترو تذكير مستمرّ بغربتك، فلا توجيهات تساعدك في معرفة ايّ مترو سيأخذك الى بيتك. تذكّرني سنا أنّي كنت أردّد حين أُسأل: لماذا لبنان؟ أنّني هنا على الأقل لن أضطرّ أن أتكلّم لغة هجينة ركيكة، وأنّ عربيّتي حتّى وإن تبلّدت ستسعفني كلّ يوم في حياتي فيما لا يشبه الغربة إلّا في تغيّر موقعي من المتوسّط. وكم في هذا من عزاء!
هذا الفصل من تجربتي مع الغربة مفصليٌّ لما كان فيه من مجال لأتواجد أو أكون دون قيود اجتماعية يفرضها مجتمعنا بالبلد الأصل. فأنا هنا بكوني «أجنبية» معفاة من قيود المجتمع الجديد أو ربما كان سبب إيجادي هذه المساحة لأمارس فرديتي وأطلق عناني، هو بالذات اختياري الموفق للقوقعة التي احتوتني منذ أولى سنواتي بالمدينة، والتي أتاحت رحلاتي لإيجاد نفسي (لا أدّعي اني قد وجدتها الآن طبعا، بس جاري البحث)، بدايةً مع صديقي سعد وتدريجيّا مع أناس أتعرف إليهم في مساحات مغايرة كنت أرتادها، وانتهاءً بأصدقاء اعتبرهم محوريين تعرّفت إليهم بسبب تواجدي بشوارع الثورة.
أنتقل الآن إلى الإمارات.
دبي لا تشبهني. وكم هو مربك أن تنتقلي من مدينة تعكسُ أركانُها مكنوناتك وتشبهك في صخبها وفوضاها واكتظاظها، في موسيقاها وسمائها– سواء كانت زرقاء صافية أو مكفهرّة– وفي خيباتها المتتالية، إلى دبي. نقيض كل هذا. لست قادرة بعد على التعبير تماماً عمّا أحسّه تجاه هذه المدينة التي أستصعب حتّى أن أسمّيها مدينة، فهي تفتقر إلى أهمّ ركائز المدينة: الروح. أو أبسط حتّى: إلى شوارع ضيّقة، مسارح، بارات، أو ممرّات للمشاة. كان مشروع هجرتي إلى الخليج يراقبني بكثب طوال السنة الماضية. لكنّني أختار عدم المواجهة في كل مرة. فأسافر حينًا إلى تونس وأعود بعدها إلى بيروت ثانيةً وثالثةً. حتّى خُرتُ من الهروب وأقْنَعتُني أخيراً بالقدوم.
كنتُ قد كتبتُ سابقاً أنني لا أعرف لماذا أعود إلى هذه المدينة، وها أنا الآن أخبركم أنّني لا أعرف أيضاً كيف أمضي عنها. فهذه المدينة طُبِعت فيّ، وهجرتي منها الآن، حتّى وإن عنت قطيعةً مع فكرة استكانتي لها بيتاً، ليست إلّا انفصالاً جسدياً وقطيعة ماديّة. فمدن مثل بيروت هي ما تَصنعه بنا، والبيت أو الوطن-home- هو ما تزرعه فينا تجاربُنا في هذه المدن، وهو ما نحمله معنا إلى مدن جديدة عاقر على أمل أن لا ننسى معناه أو نتوه في رحلة البحث اللامتناهية.