لم أهجر لبنان، هجرت بيروت. خرجت من بيروت بعد سنة أخيرة مدمّرة وأنا مصمّمة أن «أطبش» باب المطار ورائي.
على قارّة بعيدة واسعة، تذكرت ما كنت أتوق إليه في زنقة بيروت: أكل الخضار دون غسلها 4 مرّات، شرب المياه مباشرة من الحنفية، والشجر. كنت أتوق للشجر بشكل خاص والتنزّه في الحدائق.
هذه ليست المرّة الأولى التي أترك بها البلد للعيش في الخارج.
سكنتُ لندن طوال عشر سنوات للدراسة والعمل. ومثل الكثيرين من جيلي، لم أسمِّ هذا الفعل بالهجرة. كنت أعود إلى بيروت بشكل منتظم، أترك فيها بيتاً وأغراضاً وأحباباً حتى بات الكثيرون لا يدرون إن كنت ما زلت أعيش في لندن أو عدت الى بيروت. كان يرافقني السؤال في الشارع: إنت هون أو هنيك؟ فأجيب هون وهنيك.
لم أكن وحدي على هذه الحال.
هناك شريحة كبيرة من الفنانين العرب الذين يعيشون ما بين المدن والأوطان حبّاً بعدم الاستقرار، أو توقاً لفرص العمل في بلاد لديها سياسات ثقافية. بعد الثورات العربية، دبّت بنا مشاعر أستحي اليوم بالقبول بأنّها قومية بعض الشيء. عاد حلم عربي قديم ورثناه من أجيال سابقة. وقعنا بحب بعضنا بعضاً، وصرنا نلتقي بمدن العالم شباباً عربيّاً لا تسعه الفرحة بمشاهد الثورات، ونخبر بعضنا بعضاً أننا حتماً عائدون.
عدت الى بيروت لأعيش خيبة حراك 2015 واتلقى المياه الملوثة من خراطيم الأمن الداخلي.
عدتُ لأشهد على نظام يدافع عن نفسه بالأسلحة الثقيلة: تشبيح، تنمّر، إعلام سلطة، اعتقالات رأي، محاكم عسكرية للمدنيين، سرقة أموال الفقراء ومتوسّطي الدخل، اغتيالات، حرائق، ضرائب، ثم تكليل كلّ ذلك بأكبر انفجار غير نوويّ في تاريخ البشرية. كل هذا والبلد مشروع كارثة عند كل تغيير بسيط في حال الطقس. راس بيروت حيث أسكن، وحيث المالكون ما زالوا متشبّثين بكذبة أنها منطقة راقية، تزداد ضغطاً، عبئاً، وكلوستروفوبيا.
مدينة برمت ظهرها للبحر، ثم برمته عن سائر البلد لتنشغل برداءة حياتها اليومية.
لا أريد أن أضيف على الكلام الزائد عن حبّنا وكرهنا لبيروت. لا أريد أن أضيف على الجدل عن الهجرة الحالية، وعمّا إذا كان من يهاجر من لبنان اليوم ضحيةً أم خائناً.
لن اقول إنّني أهاجر من أجل سلامة طفلتي وكأنّ حياتها أثمن من حيوات أبناء من بقي. لكنّ الذنب الذي شعرته تجاهها بعد 4 آب الماضي كان بضخامة الانفجار.
تضحكني تأمّلات المشاهير والأطباء المعروفين والإنفلوانسرز على صفحات التواصل الاجتماعي، وهم يتركون البلد مؤكِّدين حرقة قلوبهم وحبهم الأزلي للبنان. يضحكني أكثر من يسخط بهم «لمين تاركين البلد؟»، والمثقفون الذين يتعالون عليهم معلنين «أحسن! روحة بلا رجعة». أضحك لأنني لا أشارك حفل مشاعر الوطنية الدرامي وحب الاوطان. أشارك حرقة القلب بخسارة انتفاضة 17 تشرين، وغصّة أننا نترك البلد قبل أن نشهد على نهايتهم، ونثأر لمن قُتل تفجيراً، تفقيراً، تسمّماً أو برصاصات ستّ.
لن أردّد ما قاله الصادقون ممّن حزموا أمتعتهم سريعاً بأننا حاولنا، حاولنا الكثير، ولم نعد قادرين أن ننجو بأعجوبة، ونقطن دوامة القلق الجماعي هذه.
ما يهمني الآن هو لملمة نفسي والحفاظ على الضئيل ممّا تبقى من الصحة النفسية. وتهمّني حال الناس العاديين، وما يدفعهم للبقاء أو الترحال أو حتى الهجرة الداخلية. فهناك من قرّر بناء علاقة صحية مع البلد رغم هزائم السنين وإجرام النظام، فتركوا بيروت ووجدوا ملجأً في الجبال أو على الساحل بين الأشجار.
أمّا أنا، فهناك أرزةٌ في حديقة بيتي في ولاية نيويورك، أنظر إليها يومياً ولا ألتمس حبّ لبنان، بل الثأر لسكّانه.