خاضت قوى 8 آذار الانتخابات تحت نفس الشعار الذي اعتادت عليه في السنوات الأخيرة: هي ليس مسؤولة عن الحكم، رغم امتلاكها الأكثرية النيابية في المجلس السابق، إضافةً إلى أهمّ الوزارات. وتحاول تلك القوى الاستمرار بالنهج نفسه، وإن كانت الاستحقاقات الأخيرة تشير إلى سيطرتها على زمام الأمور.
انتهت الاستشارات النيابية المُلزمة بتكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لتأليف الحكومة الجديدة، في مشهد كرّس سيطرة حزب الله وحلفائه على مختلف الاستحقاقات الدستورية التي أعقبت صدور نتائج الانتخابات النيابية، رغم أن تلك النتائج سجّلت تراجعاً لحلفاء الحزب في عدد كبير من المقاعد.
فقد أوحت نتائج الاستحقاقات المُتتالية أن الأكثرية ما زالت تدور في فلك قوى 8 آذار التي تمكنت من إعادة نبيه بري إلى سدّة رئاسة المجلس وانتخاب الياس بوصعب نائباً له، ومن ثم فوز جميع المرشحين- ضمن التسوية التي عقدتها- في مناصب أعضاء هيئة مكتب المجلس.
إلا أن هذه الأكثرية لم تكن في أي من هذه الاستحقاقات جامدة أو كتلة واحدة، ففي انتخاب بري كان التيار الوطني الحر خارج الخط التوافقي، رغم ما أُشيع من تسريب عدد من الأصوات لبري. وفي انتخاب بوصعب كانت الأكثرية صافية لقوى 8 آذار والتيار الوطني الحر بعد أن صبّت أصوات الحزب الاشتراكي لمرشحهم غسان سكاف.
أمام هذا المشهد، يمكن القول إنّ قوى 8 آذار لا تملك الأكثرية الصافية بقدر امتلاكها للانضباط المطلوب لجمع الأصوات وضبط ايقاع أي عملية انتخابية.
تستفيد قوى 8 آذار من عاملين سمحا لها بضبط سير الأمور في المجلس:
الأوّل: تشتّت القوى المناوئة لقوى 8 آذار وضعفها في ظل انعدام أي رؤية أو طرح بديل يمكن الالتفاف حوله، وهذا ما ظهر جلياً خلال الاستشارات النيابية التي عجزت فيها هذه القوى عن تسمية شخصية يمكن الإجماع عليها. حتّى أنّ هذا التشتّت ضرب كتلة نواب التغيير الذين ما تركوا اجتماعاً إلا وعقدوه من دون الوصول إلى موقف موحّد.
الثاني: غياب ضابط الإيقاع. ففي الوقت الذي يلعب حزب الله هذا الدور لدى فريق 8 آذار والتيار الوطني الحر، تعجز أي قوة سياسية منافسة للحزب عن القيام به.
أضف إلى ما تقدّم، عودة القوات اللبنانية إلى مربّع التسويات والتحاصص وتقاسم مغانم السلطة، وهذا ما سهّل على قوى 8 آذار مهمة الإمساك بالسلطة. ولعّل تجربة انتخابات اللجان أكبر برهان على ذلك حيث تمكنت القوات من الفوز برئاسة لجنتَي الإدارة والعدل، والبيئة، ومنصب المقرّر في لجنة حقوق الإنسان، في حين خسرت الصورة التي حاولت تكريسها خلال السنوات الماضية بوصفها قوّة سياسية معارضة. وهذا ما سمح لنواب 8 آذار والتيار الوطني الحر بالحصول على أكثرية الأعضاء في معظم اللجان النيابية، فضلاً عن مساهمتها بوصول ميقاتي مرة جديدة إلى السراي الحكومي من خلال عدم تسمية أي مرشح خلال عملية التكليف.
ثمة عامل إضافي يمكن ملاحظته عند الحديث عن الأكثرية النيابية، وهو انسجام يتامى تيار المستقبل مع خيارات حزب الله، سواء بانتخاب نبيه بري أو تكليف ميقاتي.
كل ذلك مكّن تيار 8 آذار من تجديد إمساكه بمفاصل الحكم، سواء في الرئاسات الثلاث أو في الحكومة المرتقبة التي من المُرجح أن تتسلّم صلاحيات رئيس الجمهورية في حال شغور الموقع.
إلا أن ما تغفله هذه القوى هو أنّ من يملك هذه الأكثرية يتوجب عليه تحّمل المسؤولية. فلن يعود بمقدور حزب الله أن يُطالعنا بنغمة الوقوف وراء الدولة في ملف الحدود البحرية، ولا يمكن السماح للتيار الوطني الحر بإعادة سردية تعطيل مشاريعه، ولا يمكن لحركة أمل أن تُحدثنا عن تحمّل الدولة مسؤولية الانهيار.. فمن يملك الصلاحية والموقع، وجب عليه تحمّل مسؤولية الحكم.