استياؤنا اللبناني
جريمة قام بها سوريّون.
لا داعي للتدقيق بالخبر أو تقديم معلومات إضافية أو إعطاء سياق ما. فالجريمة باتت لها دلالة واحدة، وهي جنسيتها: الجريمة سورية. لا يرتكبها فردٌ سوري، بل الجماعة بأكملها، جماعة «النازحين» الممتدة على كامل أراضي البلاد.
لا داعي لقول المزيد، فالخلاصة واضحة، حسب حثالة الإعلاميين والسياسيين والمؤثرين «الوطنيين»: رحِّلوهم، طفح الكيل. فكيلهم بات يطفح عند كل مفترق طرق، لشدّة الاستياء الذي بات يحتوي عليه. وهذا الكيل يحتاج إلى حفلة من التعريص العنصري كل بضعة أشهر بغية تنفيسه.
الاستياء هو من الميزات الأساسية لسكّان هذا البلد، وقد يكون الشعور الموحّد الذي يجمع، رغم كل الفروقات، على تربة الفاشية.
ابتزاز، تعويض، إزاحة
لا داعي لمناقشة حجج «العنصريين»، فهي تركيب من أرقام خاطئة وخبريات كاذبة وتخويف رخيص. هم لم يناقشوا أصلًا، هم مجرّد صرخات وصيحات وانهيارات عصبية مفادها أن الكيل قد طفح، مجرّد غضب يريد أن يعبّر عن نفسه… إي أنا عنصري… حذّر منشور في شوارع بيروت من «غضب وعنف وتفلت أمني»، وكأنّ العنصريين على طزطيزاتهم يعلنون أنّهم باتوا متفلّتين أمنيًا.
لا داعي لمناقشة الحجج، لكن يمكن «قراءتها». فهي دلالة عن عقلية باتت مهيمنة بعد الأزمة، هذه الأزمة التي عرّت البلاد وفضحت جنون العظمة الذي شكّل صورة البلاد عن نفسها، تاركة وراءها جرحاً نرجسياً لا يشفيه إلّا الاستياء.
حأضرب سوري إذا ما…
فالعنصرية تأتي بطعم الابتزاز عندنا. بدأت مع محاولة ابتزاز الدول الغربية والمؤسسات الدولية باللاجئين، عندما حاول بعض السياسيين تهديد الخارج بإرسال اللاجئين إليه إن لم ينصَع لمطالبهم. لم ينصَع، لكنّ الابتزاز استمرّ. أحزاب تهدّد بعنف ضد اللاجئين إن لم تتحرّك الدولة، بلديات تهدّد بقمع اللاجئين إن لم تقدّم لهم مساعدات.
ضربت السوري لأنو بعد فيني…
لكن لم ينصَع أحد لهذا الابتزاز، فبقي أصحابه يهدّدون وحدهم. فبات للعنصرية دور آخر، وهو التعويض عن حالة من النقص، يعاني منها كل مَن اعتاد فرض سلطته على الأضعف. فحتى لو لم يُجدِ الابتزاز، فمجرّد إمكانية التسلط على الأضعف تشفي بعضًا من النرجسية الجريحة لهذا المجتمع المأزوم. لسنا في أسفل السلّم، ما زال هناك من هو أضعف منّا وما زلنا قادرين على تعنيفه. في هذا العنف المجاني لذة ومتعة. هو يبدو وكأنّه غضب واستياء، لكنّ المتعة هي التي تحرّكه، متعة السلطة المفقودة، سلطة كان البعض يمتلكها يومًا ما، قبل أن تقضي عليها الأزمة.
ضربت السوري لأنو ما فيني أضرب غيرو…
لكنّ العنصرية ليست تعويضاً لحالة من النقص وحسب، هي أيضًا إزاحة للمسؤولية الفعلية. فالانكباب الدوريّ على اللاجئين السوريين هو إزاحة للمسؤولية عن فاعلين سياسيين، يفشل غوغاء العنصريين في محاسبتهم، ويحمّلونها لخصم متخيّل يمكن الانتقام منه بلا أي رادع. العنصرية هي المنفذ الأخير لمن فشل في محاسبة حزبه أو زعيمه أو مموّله، منفذ سمح لكامل الطبقة السياسية والاقتصادية أن تتجاوز الأزمة وتعود إلى الحكم وكأن شيئاً لم يحدث.
ليس فقط دفاعًا عن اللاجئين، بل رفضًا للعنصريّين
سيأتي من يتّهم «الجمعيات» و«التمويل» بدعم اللاجئين من أجل إرضاء أجندات أجنبية تريد أن تحوّل لبنان إلى أرض لجوء دائم، لولا مقاومة «العنصريين الجدُد». لكن لا داعي لمؤامرات كونية لتفسير موقف مَن يعارض حفلات التعريص الموسمية ضدّ اللاجئين.
فهذا الموقف، أخلاقيّ أولًا، وينمّ عن رفض أيّ عنف موجّه ضدّ مَن هو ضعيف أو مضطهد أو مقموع، لأي سبب كان. لا يحتاج الموضوع إلى أكثر من ذلك، ومن يحتاج إلى مقولة «التمويل» لتفسير موقف كهذا هو من لم تحرّكه الأخلاق أصلًا.
لكنّ الموقف سياسي أيضًا، إن لم يكن أصلًا، وينطلق من رفض تحالف العنصريين هذا، والذي إن تمادى بخطابه، يشكّل خطرًا على البلاد. فنرى استياء هذا التحالف ينكبّ عنفًا في وجه أي اختلاف في البلاد أو أي اعتراض في وجه من عجزوا هم أن يعارضوهم. إنّه التحالف الذي يريد أن يفرض على البلاد أن تشبههم: حفنة من المستفيدين تخشى أي اختلاف أو اعتراض قد يعرّيها على حقيقتها.
هناك جرائم يرتكبها بعض السوريين في لبنان، لا شكّ في ذلك. لكنّ حملات العنف المنظّم، لا يرتكبها إلّا العنصريون الخائفون على البلد. الأخطر بين الإثنين ليس الجرائم، مهما كانت شنيعة.