استفاق اللبنانيون، مطلع هذا الأسبوع، على أقسى عمليّة تخفيض في سقوف السحب النقدي التي تفرضها المصارف اللبنانيّة على حسابات عملائها. جرى تطبيق هذا التخفيض بشكل متزامن في الغالبيّة الساحقة من المصارف، وبشكل مشابه، عبر تحويل سقوف السحب إلى سقوف نصف شهريّة بدلاً من السقوف الأسبوعيّة السابقة. وهكذا، بدا واضحاً أن الخطوة الجريئة كانت مدروسة ومنسّقة على مستوى القطاع ككلّ، وأنّها ليست سوى جزء من عمليّة التقليص التدريجي والمنظَّم لحجم الدولارات المسموح بسحبها نقداً، وهو ما يمهّد للتوقّف التامّ عن عمليّات السحب هذه في المستقبل.
بدا وكأنّ المصارف كانت تنتظر تشكيل الحكومة التي باشرت تصريف الأعمال، لتنال الغطاء السياسي الذي سمح لها بتصعيد إجراءاتها في وجه المودعين على هذا النحو، بعدما امتلكت خلال الفترة الماضية غطاء حاكم المصرف المركزي الصريح. وتُفيد مؤشّرات الأيام الماضية بأنّ المصارف ستنعم بجنّة توافق الحكومة مع المصرف المركزي لتكريس مصالحها كأولويّة مطلقة، وأن توجيه الإجراءات النقديّة والماليّة لخدمة هذه المصالح سيكون عنوان المرحلة القادمة.
المؤشّر الأوّل يمكن تلمّس المؤشّر الأوّل على ذلك من خلال طبيعة التشريعات والنصوص التنظيميّة التي يتمّ العمل عليها بين مصرف لبنان والحكومة. فعلى سبيل المثال، رفض رياض سلامة التصريح عن نتائج الاجتماع المالي الذي جمعه برئيس الحكومة ومجموعة من الوزراء يوم الإثنين الماضي. لكنّ وسائل الإعلام سرعان ما تناقلت أمس مسوّدتَيْ مشروع قانون ومشروع تعميم أحالهما سلامة إلى رئيس الحكومة ووزير الماليّة، بالتنسيق معهما، للعمل على تشريع إجراءات ضبط السيولة المعمول بها في المصارف.
وإذا كانت مسوّدة مشروع القانون تهدف ببساطة إلى منح مصرف لبنان الصلاحيّات الاستثنائيّة التي طالب بها سلامة سابقاً، فإنّ مسوّدة مشروع التعميم ليست سوى تشريع رسمي لعمليّة السطو على الودائع التي تقوم بها المصارف منذ 17 تشرين الأول. فالمسوّدة تنصّ على سقوف لحسب الودائع بالليرة، دون أيّ ذكر للسقوف التي تفرضها المصارف على سحب الودائع المقوّمة بالدولار، وهو ما يتّسق مع رأي سلامة القانوني الذي يسمح للمصارف بإيقاف عمليّات السحب النقدي بالدولار في الفترة القادمة. وبينما تكرّس المسوّدة كلّ القيود المفروضة على صرف الشيكات نقداً واستعمال البطاقات، لا يوجد أيّ تمييز بين الحسابات التي ستكون عرضةً لهذه القيود من ناحية الحجم.
باختصار، من المفترض أن تكون المسوّدتان مجرّد صكوك قانونيّة وتنظيميّة تسمح للمصارف بوضع هذه القيود على الودائع، دون أن تكون عرضة لأي محاسبة أمام المحاكم الأجنبيّة. وحتّى المواد التي تحدّد الحالات التي تسمح للمودعين بتحويل المبالغ إلى الخارج، تمّت صياغتها بما ينسجم مع النصوص التي وضعتها جمعيّة المصارف سابقاً لهذه الغاية.
المؤشّر الثاني ظهر المؤشّر الثاني على طبيعة الغطاء السياسي الذي منحته الحكومة للمصالح المصرفيّة من خلال توجّهات حسّان دياب في ما يخصّ استحقاقات اليوروبوند القادمة. فبينما يعاني لبنان في تأمين الدولارات المطلوبة لاستيراد الدواء والمحروقات والقمح، خرج رئيس الحكومة ليقول لن نتخلّف في عهدي عن سداد سندات اليوروبوند. وفي حال أصرّ رئيس الحكومة على مقولته هذه، فإنّ ذلك يعني تبديد ما يقارب 5.2 مليار دولار من احتياطيّ مصرف لبنان خلال عام 2020، لسداد سندات اليوروبوند مع فوائدها، علماً أنّ المصارف اللبنانيّة هي أبرز حمَلة هذه السندات.
يقول المثل العربي الشهير إنّ فرعون حين سُئل «يا فرعون مين فرعنك؟»، أجاب «تفرعنت وما حدا ردني». يعبّر هذا المثل عن درجة الغطرسة والتسلّط التي يصل إليها من يتنامى نفوذه على حساب الآخرين دون أن يجد حسيباً أو رقيباً. فكيف لنا أن نلوم المصارف اليوم، بينما تنعم بكل هذا الحرص على مصالحها، ولا تجد لأفعالها أيّ رادع؟