كانت هذه الكلمات الخمس كافية ليطمئنّ المُتابع عند سماع الخبر. شيرين هناك، في الصف الأوّل، نعرف أن ما نراه على الشاشة هو ما تراه شيرين في فلسطين، وأن ما تراه شيرين في فلسطين هو ما يحصل فعلاً في فلسطين، على الأرض، في الصف الأوّل.
لم يعرف جيلي شيرين من تغطية انتفاضة الأقصى، كما فعل الكثيرون، حيثُ كان وجه شيرين الأبرز في نقل الانتفاضة. كنّا أصغر من الفقه بشؤون التلفزيون، ولم نحفظ من تلك المرحلة سوى شعارات أطلقها ياسر عرفات، وصوَر أطفال الحجارة، وخبر أنّ أبو عمّار مات.
أبو عمّار مات، ومات عشرات الفلسطينيّين، والمئات، والآلاف. استشهد واستشهدوا، هناك، خلف الجبال، ونحن لم نكن نعرف عنهم سوى من تلك الشاشة المربّعة، وصوت شيرين.
انتهت انتفاضة الأقصى، وجاءت الحرب على غزّة عام 2008، ثم عام 2014. تابعناها، وكانت هي هي لا تزال هناك، «غزّة، شيرين أبو عاقلة»، ببزّة «الصحافة» الزرقاء والخوذة، ولوغو قناة الجزيرة في الزاوية.
ثم انتهت الحرب على غزة، وجاءت هبّة الشيخ جرّاح، وحملت معها أسلوباً جديداً لنقل الوقائع الفلسطينية عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي استبدلت التلفزيون. استبدلت التلفزيون، إلّا شيرين. كانت هي هي لا تزال هناك، «حي الشيخ جرّاح، شيرين أبو عاقلة»، قاعدتلهم. هناك، تعرّفنا على شيرين.
ثم انتهت هبّة العام الماضي… وجاء خبر استشهاد شيرين، صباح اليوم.
لا أعرف ما يُطلق على هذا الشعور. ليس حزناً، ربّما غضب، ليس أسى، ربّما حقد، ليس انزعاجاً، ربّما رغبة دفينة بمحو الاحتلال. ليس ربّما، بالتأكيد. أعرف فقط أنّه شعورٌ لعين، شعورٌ غريب. غريب لأنّنا كنّا نعتقد أنّ شيرين مُضادّة للموت.
كانت هي هي دائماً هناك، في الكادر. مُرابطو الأقصى أمامها يرمون الحجارة، مسلّحو جنين أمامها على أبواب المخيّم، أهالي الشيخ جرّاح أمامها بوجه المستوطنين، وهي هي لا تزال هناك، في الكادر نفسه، في الكادر اللعين نفسه، أمام المحتلّ اللعين نفسه.
كنّا نعتقد أنّها مُنَزَّهة عن الموت، فقط مَن أمامها يستشهد أو ينجو ليعود ويلتقط حجراً جديداً يرميه على الاحتلال، وهي مكانها تُعيد وتُعيد وتُعيد وتقول: «فلسطين المحتلّة، شيرين أبو عاقلة».
كنّا سذّجاً، ولا زلنا سذّجاً.
ربما هذا من نِتاج رواسب المعايير الغربية لخوض الحروب، القول بأنّ الصحافي مُحايد وخارج المشهد. هذا ما حطّمته شيرين. ما كانت يوماً خارج المشهد. كانت هي هي دائماً هناك، جزءاً من المشهد، أمام المحتلّ اللعين نفسه. يرميها برصاصٍ حيّ فتُجيب بتغطيةٍ صحفية واثِقة تختمها بكلماتها الخمس الأخيرة: «فلسطين المحتلّة، شيرين أبو عاقلة».
في فيديو الإعدام، لا نسمع سوى كلمة واحدة: شيرين! شيرين! شيرين!
لم يردّد زملاؤها سوى تلك الكلمة. كأنّهم أرادوا أن يختموا التقرير، أن يختموا التقرير اللعين. هم أيضاً اعتقدوا أنّ ما حصل هو مجرّد روبورتاج مُتلفز، روبورتاج مُتلفز لعين، وأنّ شيرين ستنهض وتنزع الرصاصة اللعينة من عنقها وتقول: «فلسطين المحتلّة، شيرين أبو عاقلة».
لم تفعل.
كنّا نعتقد أنّها لن تموت، وأنّها ستحضر في هبّة الأقصى المقبلة. كنّا سذّجاً، وما زلنا سذّجاً، وغاضبين.
لن تحضَر شيرين في الانتفاضة المقبلة، فهي الآن هنا في الصف الأوّل أيضاً، لكنّه هذه المرّة الصف الأوّل من التشييع، تشييعها.
يرفع نعشها زميلها الإعلامي، ببدلة «الصحافة» الزرقاء، من الجهة اليُمنى، ومن الجهة اليُسرى مسلّح من جنين بسلاحه الحربيّ ووجه الملثَّم. هنا تستلقي شيرين، بين العدسة والسلاح. بين نقل الواقع، وخلق الواقع. على تقاطع الإعلام والرصاص. على تقاطع الإعلام والرصاص، بصوتٍ واثق يعلم علمَ اليقين أنّ الاحتلال لن يدوم. الاحتلال اللعين لن يدوم.
في اللحظات الصعبة تغلّبتُ على الخوف، فقد اخترتُ الصحافة كي أكون قريبةً من الإنسان. ليس سهلاً ربّما أن أُغيّر الواقع، لكن على الأقل كنتُ قادرةً على إيصال ذلك الصوت إلى العالم. أنا شيرين أبو عاقلة.
ليس سهلاً ربّما أن أُغيّر الواقع، لكن على الأقل كنتُ قادرةً على إيصال ذلك الصوت إلى العالم. أنا شيرين أبو عاقلة.
أنا شيرين أبو عاقلة.