يوميات انفجار المرفأ
زكريا جابر

فوبيا النترات: أُنظُروا إلينا نحترق

6 آب 2021

قوموا بالسير في زقاقكم المفضّل ليلاً. أتحدى أقوى قلب بينكم أن يبقى نابضاً في الليل المكحَّل بالعتم. ضعوا سمّاعاتكم في أذنكم واسمعوا أغاني «شب جديد» و«الضبور» على أعلى صوت. التعرّض للقتل أو للسلب في بيروت أجمل مع أغنية «كحل و عتمة» أو «إن أن». ثمة من سيقطع الموسيقى من مكبّرات الصوت في رأسنا، وسيَجري أمامنا حاملاً هاتفنا الجوّال المسحوب من جيبنا. ولن نركض خلف «الحرامي» لعلّه مسلّح ولعلّه مدجّج بالحقد نفسه الذي أتنفّسه ليلاً ونهاراً.


أتمنى أحياناً أن تصبح ذكرياتي قابلة للصيرفة مع السارقين. لن أمانع إن قام أحدهم بسرقة ذاكرتي المسجّلة عام 2020 بالصوت والصورة والجروح.

سنة حلوة يا تروما… ينعاد عليك يا حبيبي يا مرفأ بيروت.

البطريرك حضّر خطبة «صاروخية» ودعا الناس إلى عدم الانجرار إلى الشغب وارتدى ثوباً عليه أسماء بعض الضحايا للتعبير عن التضامن. المهندس «العرص» نديم كرم عاملك أبشع تمثال يا حبيبي يا بور port. والشهداء يا ضيعانهم، والحرس ما أكثرهم، والعسكر ما أسخفهم، والمجرم ما أحلاه نازل يسرح ويمرح ويتذكر عملته ويشارك بنشاطات متنوّعة في سيرك مرفأ بيروت 2021.

سنة حلوة يا 4 آب، مش ضروري تكون هيك آخرتنا. دمعنا ناشف والمسيّل نازل علينا مثل شتاء الأسيد. ثمة من يتسلى بنا من تلك القوى الأمنية. ما الدافع الذي يجعل من العسكري قاتلاً وكيف نتخطى فكرة أننا ضحايا أينما حللنا في تلك البلاد؟

وبعد كل كارثة نغوص في التاريخ ونشق طريق العشر سنوات القادمة. سنة حلوة يا 4 آب يا أحلى ذكرى. يا أحلى أكليل على قبور المحطمين.

لن أرتاح قبل أن أشعر بـ4 آب مرة أخرى.

أكره المرفأ وكل ما يدور حوله. ليت بإمكاني تفجيره مرة أخرى بالمواد ذاتها ممزوجة بالمفرقعات ومحشوّةً بكل أنواع المافيوزية التي تعود وتنبت مع القمح بعد كل تنظيف لهذا المسرح. مسرح جريمة يسعى لإبقاء الذاكرة معلّقة بحبال وحش يُدعى 2020. العالم بأكمله يتجه لمحو هذا العام من الذاكرة إلا نحن، ندعو للبقاء في التروما.

2020… سنة الكلمات الـ«ذات صلة» … أتمنى أن يأتي تاريخ جديد ينسينا الرابع من آب الذي أنسانا كل التواريخ المعاصرة قبله… 17 تشرين… 22 آب… 2011… السابع من أيار 2008 طبعاً… حرب تموز 2006 وقبلها عملية اغتيال رفيق الحريري… زهرة ذكرياتنا الدموية كأولاد ما يُدعى بجيل السلم الأهلي. موته جاء لينسينا تاريخه، واليوم موتنا يأتي لينسي العالم أننا كنا أحياء يوماً ما.


أنظروا إلينا نحترق… متشوّقين لجروحنا المستقبلية التي ستُطرَّز على أجسادنا لتنسينا جروحنا المشتركة في الماضي الذي لا يموت. ننتظر ما هو أسوأ لنحصل على مجزرة أقلّ سوءًا في ذاكرة مرفأ بيروت. ولا أعتقد أن «الحقيقة» ستشفينا. نحن مرضى للأبد، ليت هناك طبيباً كونيّاً يكذب علينا ويقول لنا أننا بخير رغم الموت الذي يحاصرنا.

سيقتلنا الوضوح والإحباط وسننام كلنا في الشارع.

أنظُروا إلينا نحترق مثل «ساعر 5» التي احترقت منذ 15 عاماً أمام كورنيش عين المريسة. كنّا في خضمّ الحرب نهتف مع نصر الله، وكنّا جميعنا سعداء بقصف البارجة الحربية العسكرية الإسرائيلية. كان يبدو لي، حتى لو كان خصماً، أن علاقته بالسفن والبوارج متوترة. هو يعلم كيف يصيب «ساعر 5 » بالصواريخ ولكنه لا يعلم ماذا كانت تفعل السفينة «روسوس» على مرفأ بيروت. ويضحك: شو؟؟؟ عنبر 12؟ شو هيدا؟ نترات؟ أمونيا؟ أمونيوم؟ شو بيعرفني.

لا أعلم كيف هي علاقته بالسفن اليوم، ولكن كأنّي اليوم أصبح لديّ ما يُدعى بفوبيا النترات.


المشهد دمويّ هنا. في عقلي وفي نشرات الأخبار، كلنا نريد أن نغذي أنفسنا بـ«دوز» من القتلى وضحايا انهيار أقلّ ما يقال عنه عالمياً أنه نموذجي. وفي عزّ الانهيار، وجدتُ نفسي أشاهد فيلماً شاهدتُه عشرات المرّات، وفي كلّ مرّةٍ أشاهده، ألاحظ شيئاً جديداً. «أوغاد مجهولون Inglourious Basterds» لكوينتين تارانتينو هو فيلم يلعب المخرج فيه بالتاريخ ويقرّر قتل هتلر وكلّ من يلتمّ حوله في صالة سينما فرنسية متواضعة تديرها وتمتلكها بنت يهودية تتنكر بهوية فرنسية غير يهودية إسمها "شوشانا" عام 1944.

تقوم شوشانا بالتفكير ملياً بطرقٍ للانتقام، فتقرّر حرق السينما بكل من فيها. سيشاهد النازيّون فيلمَهم «فخر الأمّة» وسيثملون ويضحكون في كل مرة يقوم القناص الألماني بقتل أحد. وحين يصل المشهد إلى الرسالة التي يحضّرها الجندي لأمّته الألمانية المنتصرة، يتفاجأ هتلر الجالس على البلكون في الصالة بصورة شوشانا في الشاشة وهي تتلو عليه آخر كلماتها قبل أن تعطي تعليماتها لزميلها في السينما بحرق النازيين.

المشهد كان جميلاً كالعادة، ولكن ثمة تفصيل صغير أثار فوبيا النترات داخلي.

استخدمت شوشانا كمية هائلة من الأفلام المصنوعة بمادة «النترات 35 ميليميتر» السريع الإشتعال لتقوم بحرق السينما بمن داخلها. ولكن النترات لا ينفجر كما نعلم كلنا. فجأةً تنفجر متفجّرات مزروعة داخل السينما وينتهي المشهد بشيء مثيل لغيمة الفطر الزهرية التي شهدناها في الرابع من آب.

المشهد أصبح مرعباً بالنسبة لي. فشوشانا انتقمت لشعبها بالنترات، أما هنا، فثمة من انتقم منا بالنترات.

وأراني أسمع كل يوم: خلص بشرفك اسكت. ما بقا فيني اسمع كلمة نترات.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان