في زاوية مقهى معتمة، انكمشتُ بشيءٍ من الحذر وأنا أضغط فوق السهم الكبير في وسط الشاشة لمشاهدة فيلم The Swimmers الذي يُعرَض الآن على منصة نتفليكس. الفيلم الذي أخرجته وساهمت في كتابته الويلزية من أصول مصرية سالي الحسيني، يروي قصّة الأختين سارة ويسرى مارديني اللتين دفعتهما الظروف في دمشق للهجرة عبر البحر.
الفضاء العام الغائب
قد يبدو في استخدام كلمة «الحذر» شيءٌ من السذاجة، ولكنّه ليس أكثرَ سذاجة من التوقّع من نتفلكس أن تطرح على نفسها جميع الأسئلة الأخلاقية وهي تروي قصّة لاجئتَيْن خرجتا من سياق سياسي واجتماعي واسع، يضمّ أيضًا أولئك الذين لم يمتلكوا جرأة ركوب قواربهم الصغيرة وعبور البحر. في استخدام كلمة «الحذر» شيءٌ من الريبة أيضاً، لكنّه ليس أكثر ريبةً من الدهشة التي يتركها الفيلم وأنت ترى كيف تُستخلَص البطولة التي تنطوي على الكثير من الاستحسان، من دون أن تدرك ما تعنيه الحكاية في مفهومها الجمعيّ.
لذلك، كلّ الآراء التي أثارها الفيلم كانت تبحث، ولو بكثير من الفضول، عن الثيمة الفجّة التي بلورها النصّ دون أن يطرح على نفسه أسئلته البسيطة، أي
كيف يمكن أن نفهم ما هو ذاتي إلى هذا الحدّ من دون أن نشتبك مع الفضاء العام الذي خرج منه أبطال الفيلم؟
لم يشرح الفيلم القضية العامة التي خرج من خلالها، لا في حواراته ولا حتى في أحداثه، وكأنّ كلّ مشهد من دمشق فيه ممحاة كبيرة تمحو كل الاعتبارات السياسية التي يمكن أن نستخلص منها الفضاء العام للمكان. فكانت الحوارات فضفاضةً ورخوةً، بعيدة عن التعبيرات والمصطلحات التي تُستخدَم ولو على عجل في السياق السوري. وقد يكون هذا الجزء الممحوّ هو الأهمّ في هذه الرواية، لأنّ من خلاله فقط يمكننا أن نستسلم لاعتبارات الموت التي نراها في مشاهد عبور القارب عبر البحر.
مشاريع بطولة فرديّة
في عالم لم يكن متسامحاً معنا أبداً، نحلم فقط أن نستعيد حكاياتنا، دون الحاجة لكي تتحوّل أسماؤنا إلى مشاريع بطولة فرديّة. في كل مرّة نشاهد محاولة للإجابة لهذا الحلم، أو للإجابة على السؤال البسيط، من نحن؟، نكتشف مدى الحواجز التي يجب أن نعبرها قبل أن نصل إلى وجهنا الحقيقي، وكأنّنا أقل بكثير مما نراه في السينما، وأكثر بكثير من أن يدرك العالم ما كنّا نحاول أن نقوله.
تتحوّل مسؤولية الموت والخوف والهجرة من مسؤوليات جماعية إلى خيار فردي. لذلك يخرج فيلم The Swimmers من السياسي أو العام إلى مساحات فردية ضيّقة، تنتظر معها أن تسمع ولو بخجل جملة واحدة تروي الخسارة والهزيمة التي تمثّلنا جميعاً، أو إشارة واحدة لسياق أوسع. ومن الفردانية، نصل إلى انتصارات ميلودرامية، فينتهي الفيلم بمشهد بطولة غامض، بينما لم تصل بطلة الفيلم، في الواقع، إلى المراكز الثلاثة الأولى في السباق، والرقم الذي حقّقته لم يؤهّلها إلى نصف النهائيات. لكنّ روايات البطولة الفردية لا تتّسع إلّا لانتصارات ميلودرامية.
أبطال الخسارة
كأنّ العالم يقول لنا: عليكم أن تكونوا جميعكم أبطالاً، في وقت تنحصر البطولة فيه إلى فجوة ضيقة لم تتّسع لنا جميعا.
لذلك، تحديداً، لا يمكننا أن نستعرض البطولة من دون أن نذكر الخسارة، ليس لأنّنا مهزومون وحسب، بل لأنّنا ننتمي لهشاشةٍ جماعيّةٍ مهما حاولنا تجاوزها فرديًا. وخطورة تحويل الحكاية إلى نتف قصصٍ فرديّة، تقسم القضية السورية لمسارات شخصية تحثّ على مثابرةٍ ركيكة، هي تهميش للاستثنائي وللعادي في آن، تحت عنوان البطولة الفردية. وهذا ما يقع به الفيلم بطريقة سطحية، فيستبدل جميع اعتبارات التفكك والهزيمة التي يحملها السياق السوري بعنوان المسار البطولي، ليبقى الجزء الذي حاول أن يخفيه الفيلم هو الأهمّ. وللحظة، وأنت تشاهد نهاية الفيلم، وصورة يسرى وسارة مارديني، تشعر وكأننا غير قادرين على استعادة براءة الاعتراف بضعف الذين لم يملكوا أحلامهم يوماً.
اللجوء في مرآة نتفليكس
أن نعطي الأسئلة غير المجاب عنها وزنها الحقيقي، لا يعني أبداً أننا لم نمتلك يوماً قدرتنا الشخصية على استعادة أنفسنا بعد كل حدث في سوريا. لكن ما يعنينا بشكل شخصي هو ألّا يتمّ تهذيب روايتنا إلى الحدّ الذي تخسر معه معانيها الكبيرة، وما تمثّله من سياق عام. لذلك، فإنّ التجريد الذي روت به نتفلكس الحكاية جعلنا نسأل أسئلتنا العامة حول المرآة الكبيرة التي تحاول هذه المنصة أن تعكس من خلالها قضية اللجوء.
لكن، للحقيقة، لا يمكن أن نتوقّع من نتفلكس أكثر من هذا، كمنصة تنتج المتعة وتحاول أن تقدم رموزاً لتستمر باستغلالهم. فاكتفت بقصة يسرى مارديني، ولم تروِ الجانب الأكثر إنسانية لقصة سارة مارديني التي عادت إلى لوسبوس لمساعدة اللاجئين الذين يصلون إلى الشاطئ كل يوم، والتي اعتقلتها السلطات اليونانية عام 2018 بتهمة تهريب البشر. فاكتفت بكتابة جملتين عنها بنهاية الفيلم. وهذا التهميش المتراكم من عمل إلى آخر، والذي لا يوضح ولو على عجل ما حدث في سوريا، سيحوّل سوريا إلى قصّة مجرّدة من دون أي معنى. وعندما تفقد القصص معناها، لا تستحقّ أن تروى.