سجال خارج عن السياق
هناك العديد من الملفات المتوقع أنّ تنفجر في وجه الحكومة الجديدة، من موضوع التصحيح المالي إلى مسألة إعادة الإعمار وصولًا إلى ملف سلاح حزب الله. فالبرنامج الحكومي يأتي بعد انهيار وحرب وأزمة سياسية، وجميعها أمور تتطلب قرارات صعبة، من المرجّح ألا تحظى برضا الجميع. فنحن على مشارف مرحلة من السجالات الداخلية التي لا مفرّ منها.
لكن ما لم يكن متوقعًا هو أن «يُفبرَك» سجال، من داخل الحكومة وخارجها، حول موضوع بات خارج السياق السياسي مع سقوط نظام الأسد، وهو موضوع «عودة اللاجئين السوريين».
انطلق سجال سياسي حول تصريح وزيرة عن «العودة الطوعية»، ليفضح مقاربات بعض من المعارضة والمشاركين بالحكومة على حد سواء، وهي مقاربات شعبوية يراد منها تقويض العمل الحكومي ومحاصرة برنامجها الإصلاحي من خلال تفجير موضوع اللجوء السوري، خارج أي سياق سياسي. مرة جديدة، يُستغَلّ هذا الموضوع لمصالح سياسية ضيقة، خارج أي مقاربة عقلانية لهذا الملف.
«العودة الطوعية» التي تقلق البعض
بدأ السجال من جملة بسيطة لوزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيّد التي أكّدت أن التزام لبنان بالاتفاقات الدولية يعني أن عودة النازحين السوريين يجب أن تكون طوعية. واستكملت الوزيرة جملتها باعتبار أنه مع سقوط نظام الأسد، بات هناك إمكانية لتنسيق مع الجانب السوري لضمان عودة اللاجئين إلى ديارهم. لم يكن هناك ما يستدعي سجالًا، فالموقف الذي عبّرت عنه الوزيرة يتمسّك بأولوية العودة التي يجب أن تتمّ وفق معايير قانونية وسياسية، وبالتنسيق مع الدولة السورية.
لم يكن هناك ما يستدعي سجالًا، لكنّ السجال انطلق. حاول الوزير طارق متري أن يوضّح كلام السيّد، مؤكدًا أن مصطلح «العودة الطوعية» متعارف عليه دوليًا، كما أكّد أنّ ما هو مرفوض هو الترحيل القسري أو بالقوة. لم يكن هناك ما يستدعي ردود فعل حيال هذا التوضيح، لكنّ الهجمة طالت صاحبه الذي كان قد تعرّض قبل أسبوع لحملة شنيعة من محطة «أم. تي. في».
مع سقوط نظام الأسد وقيام سلطة سوريّة جديدة ترغب بتسوية هذا الملف، لا يبدو أنّ في هذا الكلام ما يتطلب ردود فعل وحملات تخوين. فللمرّة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمن، بات هناك أفق لحل مسألة اللجوء، كما بات هناك سلطة سورية متعاونة. فالعودة الطوعية لم تعد مجرّد مطلب أخلاقي، بل باتت المطلب الواقعي في ظل الظروف الجديدة.
العنصريّة لمحاصرة الحكومة
تصدّر حملة استنكار كلام السيّد حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. صرّح النائب جورج عدوان بأنّ الوجود السوري هو وجود غير شرعي، مطالبًا الأمن العام ترحيل كل من لا يستحوذ على إقامة منهم. والتحق به عدد من نواب القوات اللبنانية مندِّدين بكلام السيّد. أمّا التيار الوطني الحرّ، فاعتبر بكلام رئيسه جبران باسيل أن العودة الطوعية ليست إلّا توطيناً مغلفاً، وعاد ليكرّر المقولات المغلوطة عن تنامي الجرائم بسبب الوجود السوري.
لم يكن مستغربًا أن يفبرك التيار الوطني الحرّ هذا السجال، وهو بات في المعارضة بعد خسارة محوره وحظوظه الرئاسية. لكنّ الغريب هو موقف القوات اللبنانية المشاركة في الحكومة إلى جانب السيّد ومتري. فإذا كان التيار يحاول تعويض بعض خسارته من خلال محاصرة الحكومة من خارجها، يبدو أن القوات اللبنانية تريد تفخيخ الحكومة من داخلها، لكي لا تشكّل أي خطر محتمل في المستقبل على رصيدها الانتخابي. فللتذكير، لم يكن حزب القوات اللبنانية يريد هذه الحكومة، وبقي حتى آخر لحظة يحاول تمرير فؤاد مخزومي. ومع السجال الأخير، وضّحت القوات اللبنانية موقفها الخارج عن الحكومة من داخلها، وهو عنوان الشلل الذي ساد الحكومات الماضية.
مقاربة مختلفة بعد سقوط الأسد
من غير الواضح مع مَن يساجل محبّو الترحيل القسري.
فمع سقوط الأسد الذي كان وجوده السبب الأساسي لعدم عودة اللاجئين والمعارض لأي خطة عودة، لم يعد هناك حاجز للعودة ولبلورة خطة لبنانية-سورية مشتركة لإدارة هذا المسار. فإذا كان هناك تخوّف في الماضي من أن يتحوّل النزوح إلى نوع من التوطين، مع التطبيع العام مع الأسد ونظامه، لم تعد هذه المخاوف في محلها، مع قيام نظام جديد يريد عودة اللاجئين إلى ديارهم. التلويح بالتوطين هو مجرّد افتراء اليوم، يراد منه النيل من الحكومة الإصلاحية.
ومع قيام سلطة جديدة، مسؤولة، كالسلطة اللبنانية، بإعادة النظر بالعلاقات بين الدولتين، بعد التشويه التاريخي الذي أدخله نظام البعث على هذه العلاقات، فإنّ التهديد بترحيل قسري وبالقوة لآلاف اللاجئين لا يفيد في إصلاح هذه العلاقات، بل يعيد توتيرها، بما لا يفيد لبنان ولا سوريا.
كما أنّ سقوط الأسد يفتح المجال، للمرّة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمن، أمام مقاربة أخلاقية وواقعية، تبتعد عن الشعبوية العنصرية من جهة والتنديد بها من جهة أخرى، بما يؤسس لإمكانية حل نهائيّ لهذه المسألة. وتشكّل العودة الطوعية ضمن خطة مشتركة سورية- لبنانية الحجر الأساس لمقاربة كهذه.
كلّ هذا يشير إلى انفتاح آفاق جديدة لحلّ أزمة اللجوء. لكنّ المطالبين بالترحيل لا يريدون حلًا، هم يريدون استغلال هذا الملف لأغراض سياسية داخلية، تهدف إلى تقويض الحكومة الجديدة من أجل تأمين مصالحهم الانتخابية أو السياسية أو الاقتصادية. بدأت تتّضح أكثر وأكثر مروحة المعترضين على الحكومة الجديدة، من خارجها، ومن داخلها.