لأنّي ما لحقت قلّك ببكاسين شو بدنا منّك، أنا مضطر قلّك ياها هلق، نحن بدنا سد بسري يكون باسم فخامة الرئيس العماد ميشال عون (يعلو تصفيق الحضور)… بدنا ياها منّك وبدنا وعد منّك.
هكذا خاطب النائب زياد أسود جبران باسيل، في جلسة خاصّة سُرّبت منها بضعة ثوانٍ مصوّرة انتشرت بعيد خمسة أسابيع على اندلاع انتفاضة 17 تشرين. قد يبدو ذلك الطلب تفصيلاً صغيراً، لكنّه ليس بلا دلالات كبيرة.
لم تكن السدود يوماً مجرّد سدود، أي إنشاءات يُختزَل معناها بوظيفتها التقنيّة. بل غالباً ما حملت شحنةً رمزيةً عالية. فالسدّ هو الحداثة بما هي قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة واستغلال مواردها من أجل إنتاج طاقةٍ تساهم في مضاعفة قدراته الإنتاجية. السيطرة العلمية، الطاقة الحيوية، الإنتاج الاقتصادي: أسس مكافحة «التخلّف» الموروث وبناء المستقبل الزاهر.
تكثّفت دلالات السدود أكثر في بلادنا بعد جلاء الاستعمار. أصبح السدّ رمزاً لأنظمة الاستقلال بشقَّيْها الأساسيَّيْن: استعادة السيادة الوطنية من المحتلّ، والتنمية الاقتصادية- الاجتماعية. نُسجَت من حولها الأساطير القومية ورافقتها الأغاني والأفلام وخُصِّصت لها فصول من مناهج التعليم الرسمية:
غنّت أم كلثوم للسدّ العالي، في قصة السدّ: «كان حلمًا فخاطرًا فاحتمـــــــالًا ثم أضحى حقيقةً لا خيــــــالًا... حقّق المعجزات عزم جمــــــال فاحمدوا الله أن حباكم جمـــــالا».
غنّى عبد الحليم حافظ، في احتفال وضع حجر الأساس في أسوان، حكاية شعب: «قلنا حنبني وآدي احنا بنينا السد العالي، يا استعمار بنيناه بأيدينا السد العالي».
غنّى محمد عبد الوهاب وشادية، وفريد الأطرش وغيرهم للسدّ العالي أيضاً.
أمّا مناهج البعث السوري، فحوّلت نهر الفرات إلى شخصية حيّة قام حافظ الأسد بنزعها من البربريّة:
«وعلى باب المدرسة، نزع الرئيس حافظ الأسد عباءته الطينية (أي نهر الفرات) وقصّ له شعره الأشعث وأظافره الطويلة وأعطاه قلماً ودفتراً وأدوات حبر أخضر ليكتب يومياته كنهر متحضّر وأعلن وهو يحوّل مجرى النهر أن سدّ الفرات ليس عملاً هندسياً خاصاً بسوريا، ولكنّه عمل قومي من أعمال التحرير، وهذا الكلام يعني بوضوح أنّ لفلسطين حصتها من السدّ السوري.»
–طوفان في بلاد البعث، عمر أميرلاي، 2003
وشاءت «الصدف» أن يُسمّى الحوْضان الصناعيّان الناتجان عن إنشاء السدّين ببحيرتَيْ ناصر والأسد. السدود هي أهرامات فراعنة ماضينا القريب الذين طمحوا إلى إحكام سيطرتهم على الإنسان والطبيعة وطمعوا بالخلود.
تتحوّل العونيّة في شيخوختها السياسية أكثر فأكثر إلى نسخة رديئة (كيتشية) من أدبيات الناصرية والبعث. فبعد نصف قرن على وفاة «بيّ الكلّ الأصلي» (عبد الناصر) وعقدَيْن على وفاة «الأب القائد» في القطر السوري، وهو أحد الذين تنافسوا على وراثة الأصلي، أطلّ علينا الجنرال بوجهَيْن متناقضَيْن: المتمرّد على «المنظومة»، وبيّ الكلّ.
وفي عصر التغيّر المناخي العالمي، والتلّوث المُسرطِن للهواء والمياه، وتقلُّص المساحات الخضراء، تستعيد العونية السياسية المخيّلة الإمبراطورية لأنظمة الاستبداد العربية التي وازت ما بين إنشاء السدود والإنجازات الكبرى.
فأطلّ علينا جبران باسيل الصيف الماضي بـ«سيلفي» من سدّ جنّة، معلِّقاً:
زرتُه بـ12 آب 2018 وقال لي مدير المؤسّسة ومدير المشروع إنّن بيحفروا 60 متر تحت مستوى النهر بعد سنة تقريباً... واليوم عم زوره بعد سنة لشوف بعيني إنّو وصلوا للكعب، وقريباً بيبلّشوا الارتفاع ليرتفع أهمّ مشروع تنفّذه الدولة حالياً.
وبالمناسبة، كان سدّ شبروح قد وُصِف عقب تدشينه (2007) بأضخم إنجاز في عهد إميل لحوّد.
ففي المخيّلة الإمبراطورية، لا يتحقّق إنجاز إلّا بتشييدٍ ضخم يستطيع حاكم اليوم أن يأخد «سيلفي» ضمن نطاقه المهيب. وتلك المخيّلة هي ما يفسّر تشويه تراث نهر الكلب من أجل إقامة بيتٍ حزبي و… التقاط «سيلفي» جديدة. وذلك بينما يحلم زياد أسود ببحيرة سدّ الرئيس العماد التي تروي ظمأ أهالي بيروت في لهيب الصيف، فالحريّ بهم أن يكونوا ممتنّين منذ الآن للعطاء العظيم الآتي.
في زمنَيْ الانهيار المالي والوباء حيث تبرز الزراعة المحليّة كمسألةٍ حيويّة، أخذت الحكومة القرار بالمضيّ قدماً بمشروع سدّ بسري الذي يدمّر الثروة الطبيعية في المرج ويراكم ديوناً إضافية، بعدما قضى متعهّدوه على أكثر من 100 ألف شجرة مثمرة.
للنظام تناقضات داخلية كثيرة أبرزها صراع أجنحته مع طرفه المُهيمِن (حزب الله)، أمّا وجهه القمعي الأوحد فيظهر بوضوح عندما يُمَسّ بثالوث المسائل الطبقيّة والنسويّة والبيئيّة.