«أنا أعتقد أنّ أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط. المملكة العربية السعودية في الخمس سنوات القادمة سوف تكون مختلفة تماماً… هذه حرب السعوديّين. هذه حربي التي أخوضها شخصياً. ولا أريد أن أفارق الحياة إلا وأرى الشرق الأوسط في مقدّمة مصاف العالم وأعتقد أنّ هذا الهدف سوف يتحقّق مئة في المئة».
محمّد بن سلمان، مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، 2018
خمس سنوات مرّت بين إعلان محمّد بن سلمان من الرياض أنّ «أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط» وإعلانه من جدّة طيّ صفحة الصراعات التي عاشتها المنطقة. لإنجاز هذه الرحلة، استدعى بن سلمان خلال القمّة العربيّة الأخيرة مفهوم «التنمية» التي «تعثّرت» مسيرتها، بحسبه، بسبب تلك الصراعات.
لا تقتصر الصراعات التي يتحدّث عنها وليّ العهد السعودي على الدول، كمصالحاته مع النظامين الإيراني والسوري، بل أساساً الصراعات التي عاشتها المنطقة داخل مجتمعاتها وبين شعوبها وأنظمتها. بكلام آخر، يرى بن سلمان أنّ الوقت قد حان لطيّ صفحة الغضب على الأنظمة من أجل مساعدتها للتفرّغ لـ«التنمية».
بإعلائه شأن «التنمية» فوق كلّ شيء آخر، لا يبدو بن سلمان مكترثاً بالسجال التاريخي بين التنمية والديمقراطية وما الذي يأتي أوّلاً، أو ما إذا كانت الأولى تقود إلى الثانية أو الثانية تقود إلى الأولى. التنمية هنا ليست سابقة على الديمقراطية، ولا مسبّباً ولا نتيجةً لها. إنّها الأولويّة التي ينبغي للصراعات كلّها أن تتوقّف من أجلها، وخصوصاً تلك الصراعات التي كانت الديمقراطية في صلبها.
فعالم التنمية البنسلماني منفصل تماماً عن عالم الديمقراطية، لأسباب معروفة. وهو حين أراد للشرق الأوسط أن يصبح أوروبا، لم يكن يفكّر بالأنظمة السياسيّة الأوروبيّة، بل بقوّتها الاقتصاديّة. وفي الواقع، أتاحت السنوات الخمس الأخيرة لبن سلمان أن يعطينا فكرةً عن التنمية التي يريدنا أن نضحّي بالصراعات من أجلها. إنّها التنمية التي تُعدم 81 شخصاً في يومٍ واحد. التنمية التي لا تبرّر السجون فحسب، بل التعذيب والنشر (من منشار) أيضاً. التنمية التي تقوم على تعقيم الثقافة، على طريقة تركي آل شيخ، قبل تقديمها للجمهور. التنمية التي تنقل السياسة وصراعاتها إلى مجال العبث، فتحلّل قتل البشر لتعود وتنظر إلى «مؤشّر التنمية البشريّة»، وتحلّل الدمار لتعود وتنظر إلى النموّ العقاريّ. تُشعل حرب اليمن ثمّ تتباهى بالبحث عن حلّ سياسيّ. تحيي المبادرة العربية للسلام من دون النظر إلى ما جرى منذ إقرارها قبل أكثر من عشرين عاماً. تدعو الرئيس الأوكرانيّ إلى القمّة، لكنّها تصمت عن دعم أوكرانيا وتعِد ببذل جهود الوساطة.
ردّ الأسد جميل مضيفه وسايره موافقاً على «تحدّي التنمية كأولويّة قصوى»، لكنّه وضع هذا التحدّي في سياق نظريّ أوسع. فبالنسبة للأسد، لا يكفي لجم الصراعات لتحقيق التنمية، بل ينبغي أيضاً مواجهة ما أسماه «الليبرالية الحديثة» التي «تستهدف الانتماءات الفطريّة للإنسان وتجرّده من أخلاقه وهويّته».
لكن، ما هي هذه الليبرالية الحديثة التي اعتبرها الأسد العدوّ الأساسي؟ لا يقصد الأسد حتماً النيوليبرالية لأنّ الأسد نفسه هو من أدخل منذ وصوله إلى الحكم النيوليبرالية إلى الاقتصاد السوري من الباب العريض، مشرِّعاً النهب المنظّم الذي يميّز النيوليبرالية لمصلحة مجموعة لصيقة بالنظام كادت تختصَر باسم ابن خاله رامي مخلوف. لفهم ما عناه الأسد بهذه الليبرالية الحديثة وخطرها، ينبغي العودة إلى خطاب الأسد أمام لجنة الأوقاف عام 2020. ومن حسن الحظّ أنّ الأسد التزم بالدقائق الخمس المعطاة له في القمّة العربية، فلم يستفض بشرح مفهومه عن الليبرالية كما فعل قبل ثلاثة أعوام بين «أهله وجمهوره».
في تلك الجلسة المستفيضة، وصف الأسد تيّار الليبرالية الحديثة بـ«العدوّ الحقيقيّ» الذي يهدف إلى «ضرب إنسانية الإنسان». كيف ذلك؟ يعطي الأسد عدداً من الأمثلة:
أوّلاً: الهويّة الجندريّة والمثليّة الجنسيّة
يقول الأسد إنّ «هذه الليبراليّة الحديثة هي ذاﺗﻬا التي سوّقت البدعة الجديدة التي تقول: إنّ الطفل يولد لا ذكر ولا أنثى، وهو يختار لاحقاً إن كان ذكراً أو أنثى، هذا شيء عجيبٌ!». لكنّ الليبراليّة نفسها لا تكتفي بذلك، بل تسوّق أيضاً لزواج المثليّين والاعتراف بأبنائهم، «فهم يعدّونه ابناً مع أنّه ليس ابناً ﺑﺎلحقيقة، فكيف يكون هناك ابنٌ؟».
ثانياً: الدِّين
الليبراليّة نفسها التي تصيب جندر الأطفال، تناقض إنسانيّة الإنسان، بحسب الأسد، لأنّها تريد للطفل أن يختار دينه لاحقاً عندما يكبر، وهذا «مناقض لطبيعة الإنسان؛ لأنّ الإنسان منذ أن اخترع أدياناً وآلهة وأصناماً كان الابن بشكلٍ غريزيٍّ ينتمي لدين العائلة التي ولِد فيها».
ثالثاً: المخدّرات
«هذه الليبراليّة هي التي سوّقت المخدّرات منذ عام أو أكثر على اعتبار أنّها ليست ضارّة، وأصبحت تُباع بشكلٍ قانونيّ وعلنيّ في المتاجر، والآن في بعض الأماكن تستطيعون أن تطلبوا أنواعاً من الخبز بنكهة هذا المخدّر».
أمام هذا العدوّ، يقترح الأسد المواجهة عبر الدِّين «الصحيح»، واللغة (حتى لا يحصل «الفصل بين ثقافة القرآن وثقافة اﻟﻤﺠتمع»)، والأسرة («الأسرة هي الوحدة الأصغر في مجتمعاتنا الشرقية وليس الفرد كما تحاول الليبرالية الحديثة تسويقه»)، والتمسّك بالمسلّمات (الرموز القوميّة والانتماءات الوطنيّة، العادات والتقاليد، احترام الكبار، سواء كانوا كبار سن أو كباراً ﺑﺎلقيمة، برّ الوالدين).
لكن، لماذا تستدعي هذه الأجندة المحافِظة عدوّاً يدعى «الليبرالية الجديدة» التي يبدو أنّ الأسد لا يقصد بها إلا الليبراليّة الاجتماعيّة؟ لأنّ الأسد، تماماً كفلاديمير بوتين، يريد للمحافَظة الاجتماعيّة وللدين (الكنيسة الأرثوذكسيّة في روسيا، والإسلام «الصحيح» في سوريا) أن يشكّلا الذخيرة العقائدية المحلية بعد تحويل الحرب على الشعب السوري (أو الأوكراني) إلى حرب مع الغرب «الليبرالي».
وقد سبق لبوتين أن قال كلام الأسد حرفياً تقريباً. فافتتح الهجوم على الليبرالية في مقابلة مع «الفايننشال تايمز» في حزيران 2019، مهاجماً ألمانيا بسبب استقبالها نحو مليون لاجئ سوريّ. أمّا خطاب تدمير الغرب للمجتمعات، فارتفعت حدّته منذ غزو أوكرانيا، وكانت المثليّة الجنسيّة أيضاً حاضرةً كدليل على هذا التدمير الممنهج. في خضمّ الحرب على أوكرانيا، وجد مجلس الدوما الروسي وقتاً كي يوسّع نطاق قانون منع البروباغاندا المثلية. ولم يفت بوتين الاستشهاد بالكتب المقدّسة التي «تتحدّث عن الاتحاد بين الرجال والنساء لتكوين الأسرة»، متّهماً الدول الغربية بـ«تدمير الأسرة والهوية الثقافية والوطنية والانحراف والاعتداء الجنسي على الأطفال».
في زمن الثورات العربيّة، تحدّث كثيرون عن ديمقراطيّة غير ليبراليّة قد تسود العالم العربي مع سقوط أنظمة وصعود الإخوان المسلمين. في زمن قمّة جدّة، لا ديمقراطية ولا ليبرالية. فقط سفّاحون سايكوباثيّون سيسيطرون على المشهد إلى أَجَلٍ قد يكون طويلاً.