منذ 17 تشرين، بدت السلطة عاجزةً عن ابتكار الحلول. من الورقة الإصلاحيّة لحكومة الحريري التي ردّ عليها المتظاهرون بأغنية «بلها بشاي»، إلى إعلان تعليق دفع اليوروبوند بشكل عشوائيّ ودون السعي لاتّفاق مع الدائنين، إلى الهرولة نحو صندوق النقد باعتباره المخلّص الذي سيقبل بكلّ ما نقدّمه له، وصولاً إلى «الجهاد الزراعي والصناعي» و«الاتّجاه شرقاً» وتصوير العملاق الصينيّ كفاعل خير ينتظرنا على قارعة الطريق.
لكن، في الواقع، لم يكن كلّ ذلك إلا بعضاً من تضييع الوقت. فالسلطة لديها خطّة، وقد بدأت تنفيذها، وهي قائمة على ثلاثة أعمدة أساسيّة:
أوّلاً، لا إفلاس أطلق هذه العبارة حاكم مصرف لبنان، ثمّ تكرّرت على لسان أكثر من مسؤول. لكنّها لم تقف عند حدود الاستخدام السجالي، بل أصبحت هي العبارة المفتاح للتعامل مع الأرقام الاقتصادية. وقعت المهمّة على عاتق لجنة المال والموازنة التي يترأسها النائب العونيّ ابراهيم كنعان، والتي تتمثّل فيها كلّ القوى السياسيّة، من القوّات اللبنانية إلى حزب الله. عملت اللجنة على تدليك أرقام الخسائر المالية، فخفّضتها إلى النصف تقريباً، حتّى أصبح الرقم هزيلاً مقارنةً بهول الواقع. وما دام ليس هناك أرقام ضخمة، لا ضرورة لإجراءات ضخمة. يمكن التعامل مع ملفّ الخسائر من دون المسّ بأعمدة النظام السياسيّة والاقتصاديّة.
ثانياً، لا مُتسبّبين بالإفلاس إن كان الإفلاس غير موجود، فهذا يعني أنّ ما من مسؤولية على عاتق القادة الذين حكموا البلد طيلة الفترة الماضية. لا ذنب، إذاً لا مذنبين. لكن من يتحمّل مسؤوليّة الخسائر حتّى بعد خفضها؟ هناك في السلطة مَن قام بحسابات دقيقة، وتوصّل إلى الرقم الذي تكبّده لبنان جرّاء النزوح السوري. أربعون مليار دولار عدّاً ونقداً. لا حاجة لنظريّات المؤامرات الخارجيّة والحصار، ولا للبحث عن أموال منهوبة وقضايا فساد، ولا لإعادة النظر في سياسات مالية وضريبية. لقد سبق للطقم الحاكم أن تبرّأ من مسؤوليّة الانهيار الأمني بعد الحرب الأهليّة، ملقياً بالمسؤولية على «الفلسطينيّين». وها هو الطقم نفسه، معدّلاً بعض الشيء، يستخدم هذه المرّة النازحين السوريّين بعد سرقة أموال المساعدات التي تأتيهم.
ثالثاً، لا ضحايا للإفلاس لعلّ الشخص الأكثر غرابةً في هذه الحكومة هو وزير الاقتصاد راوول نعمه. الرجل الآتي من عالم المصارف يبقى دائم الاندهاش. تارةً يسأل لماذا يهاجمونه، وتارةً أخرى: لماذا لا يشكرونه؟ وحين جاء دوره للقيام بعملٍ ما، قدّم سلّةً من السلع المدعومة تتضمّن الكاجو والهوت دوغ والكرامبري المجفّف وزيت جوز الهند. وحين ارتفعت الأصوات الاحتجاجيّة حول السلّة، ازدادت دهشته معترفاً أنّه لم يختر تلك السلع بنفسه بل اعتمد اللائحة التي تضمّ السلع الأكثر مبيعاً لدى السوبرماركت.
مهما حاول المرء أن يكون متسامحاً، لا يمكن للغباء وحده أن يترك تحديد استهلاك الفئات الأكثر فقراً لمحال السوبرماركت التي لا يدخلها الفقراء أصلاً. لكنّ الأمر ليس غباءً. هو نتيجة طبيعية لنمط من التفكير قائم على نفي الفقراء. لا فقراء في هذه البلاد. إنّهم موجودون، لكن خارج سياسات الدولة، حتّى ولو كانت سياسات دعم. لديهم فقط «المساعدات». لديهم أيضاً الجيش. وعليهم أن يختاروا: إمّا أن يوزّع عليهم الجيش المساعدات، وإمّا أن يقمع غضبهم.
المشهد المخزي للآليّات العسكريّة أمام الجامعة الأميركية في بيروت اليوم، هو مشهد قد نعتاد عليه. البلد يتحوّل ثكنةً عسكريّةً كبيرة يعيش فيها مصروفون من العمل، وتكنوقراط يتنافسون على نَيْل رضا العسكر.