نأسف لخروج الثورة عن سلميّتها…
أعمال الشغب لا تؤدّي إلا إلى الفوضى وخسارة المزيد…
منذ اليوم الأول للثورة، واجهها النظام بخطابٍ يفرّق ما بين «الثوّار الجيّدون» و«الثوّار المخرّبون». الأوائل هم الذين يهتفون ويغنّون ويطالبون بحياة كريمة، والأخيرون هم الذين يشتمون ويكسّرون ويجرحون قوى الأمن. كأنهما فئتان لا تلتقيان من البشر.
في المقابل، حمى النظام نفسه بسياسة «تراشق المسؤولية» التي تبرّئ كلّ طرفٍ فيه من دمّ الدولة. هذه السياسة تتيح لأطراف النظام أن يتحدّثوا بلغتَيْن سرياليّتَيْن: لغة الأب الراعي للثورة، ولغة الطرف الحيادي الذي يدير صراع الثورة مع الفساد. يؤطّرون الثورة كمعركةٍ مجرّدة بلا سياقٍ ماديّ جارٍ يتطوّر بعلاقته مع الأحداث. تصبح كرنفال تعبيرٍ عن الرأي والوجع. مطالبها ريعيّة لا سياسية، والتغيير فيها يعني تغيير وضع المحكوم لا الحاكم. ولذلك، «نشعر بوجعكم».
يجرّدون الثورة من عداوتها لهم، ما يتيح لهم رفع الخطاب الأقرب لقلوب الناس الخائفة: خطاب الاستقرار، ولو في عزّ الانهيار. خطابٌ يفرّق بين «جيّدين» و«مندسّين». ومع السؤال البديهي: «من دسّهم؟»، ينتعش العقل السياسي اللبناني التقليدي، إذ بتنا نلعب في ملعبه، فيعيد توزيع المقاعد بين الثنائيات التقليدية، مع تنبيه مهموم جداً على سلامة «الوحدة الوطنية». هكذا نُساق من جديد إلى واحدة من القطبيّات التي تعيد توزيع الساحة وتعويم النظام. وليس رهان النظام ساذجاً هنا، فحاجة الناس إلى الاستقرار تتصاعد مع اشتداد الأزمات.
يشتدّ النقاش بين مُريدي «الشغب» ورافضيه. وهي حدّة يبتسم لها النظام. وليس في ابتسامته ما يستوجب إقفال هذا النقاش وإنما وضعه في سياق، فالنظام هو دائماً مصدر خبر «المندسّين». أمّا أسباب رافضي «التخريب»، فبيّنة منذ بدء العقد الاجتماعيّ: خوفٌ من الفوضى، من خسارة ما تبقّى، من غضب الغاضبين وممّن «وراءهم»، من المجهول الآتي… كميّة خوف هائلة تقود الرأي نحو رفض «الشغب» كقيمة مواطنية مُطلَقة. وقد ازداد هذا الخوف لدى البعض مع مشاركة شباب من «جمهور المقاومة» في تظاهرات مصرف لبنان منتصف الأسبوع الماضي، واعتبار هذا النزول لحظة بدء «الشغب»، ما يغذّي حجّة المؤامرة، ويؤدّي إلى انكماش الروح الغاضبة في زاويةٍ آمنةٍ من البيت.
لكنّ «الشغب» لم يبدأ من شارع الحمراء ليوسم بالمؤامرة، بل من شمال لبنان حيث الفقر هو الأشدّ وعنف النظام كذلك. هناك، هاجم الثوّار مصرفاً وأكثر. وفي الزوق، أُحرِق مصرفٌ. وكلّ يوم، تشتدّ المعارك والصور والدعاوى بين المصارف والناس. وإذا كان القلق من مشاركة شباب الضاحية ناجماً من أنّهم قد يغادرون الساحة إن شُتِم زعيمهم، فليكن. لن تكون المرة الأولى في سياق هذه الثورة. وإذا كان القلق من نيّات حزبية ضد حاكم المصرف، فليكن. نيّات الثورة تجاه السياسة النقدية غير دفينة ومعلّلة. ما لا نعرفه عمّا يجري لا يبدّل في ما نعرفه. لماذا يستهدف الحزب حاكم المصرف؟ سؤالٌ في مكانه، لكنّ إجابته لا تبرّئ لا الحزب ولا النظام من دمّ الدولة.
لم تأتِ الحمراء ثمّ وسط البلد من غضب فئة ضد حاكم مصرفٍ، ولا أتيا من قلّة مندسة. هذا الغضب لم يولد من العدم.
«الشغب» يستهدف آلهة النظام—المال والسلطة—بينما يشيع النظام بأنّه يستهدف الدولة. الناس لا يخرّبون الدولة، بل النظام يستمرّ في فعل ذلك كلما «فلان لن يقبل بأقل من وزيرين». يرفضون «الشغب» الذي يطال واجهة المصرف بلغة الأب الراعي والطرف الحياديّ، بينما هو فِعلٌ يريد أن يؤذي النظام ليُشعره بحجم الدمار الذي يخلّفه في كلّ بيت وجسم. يمكن قراءة هذا «الشغب» كفعل وقوفٍ لأجل دولةٍ عادلة ترعى شؤون الناس، ضد نظام التجّار الفاسدين الذي هدّها في السلم بعدما هدّتها ميليشياته في الحرب. سعيٌ رمزيّ لتحرير الدولة من خاطفيها.
لا يوجد أبطالٌ ومخرِّبون في الشارع تماماً كما لا يوجد أشرارٌ وأخيارٌ في الحكم. إن «الشغب» ضد النظام لا يدلّ على وجود نوعَيْن (فقط) من المتظاهرين. هو، في الواقع، إعلانٌ عن وجود نوعٍ واحد من السياسيّين، وهو ما لا يطيقه النظام.