كانت الساعة السادسة مساءً حين سمعتُ صوت الصفير. أخرجتُ رأسي من نافذة المقعد الخلفي في سيارة أوبر ونظرت إلى السماء. كانت زرقاء، صافية، فارغة. سماءٌ عادية ويومٌ مملّ على غير عادة، في آبٍ مليءٍ بالإنهيارات.
لا أرى طيراناً، قلت للسائق.
تسمّرت السيارات من حولنا. خرج الناس من مقاهي مار مخايل ليحدّقوا في السماء باحثين عن مصدر الصفير الذي سكن الجدران والعظام. صفير إنذار يرتفع صوته أكثر فأكثر فأكثر، يبثّ الرعب في مخيّلاتٍ باتت مدرّبة على تخيّل الأسوأ. ازدادت وتيرة الصفير، هذا التنين الذي يقترب صوبنا من السماء، صوته يرتفع، يتمدّد أكثر، مالئاً المدينة.
ومن ثمّ — فجأةً — يتوقّف.
سوف يحدث شيء، قال السائق. كان شعوري مماثلاً. رميت نفسي في أرض السيارة. أغمضت عينيّ، استعددت للضربة. انتظرت الموت. هل سننجو؟
لكن لم يحصل شيء. لم يدوِّ انفجار. لم تصعد في السماء غيمة حمراء.
لحظات، ثوانٍ، دقائق، لم أسمع حسًا.
لم أشعر بموجة الصدمة.
لم تُقذف السيارة إلى جانب الطريق.
لم تجتح بيروت موجة صفراء.
لم تخيّم فوقها غيمة حمراء.
لم تتكسّر نافذة واحدة.
بقيت الأشجار متجذّرة، والمباني صامدة، والزجاج سالماً.
استغرب السائق قليلًا. عدت وجلست في مقعدي وضحكنا على ردّ فعلي. أكملنا طريقنا الى الطيونة بهدوء، هو يقود سيارته في شوارعٍ لم يفرشها الزجاج المكسّر، وأنا أنظر من النافذة إلى طرقات لا تسيل فيها الدماء. تكلّمنا عن الصدمات والبارانويا. عن الإنهيار وارتفاع تعرفة أوبر. لم أفتح الباب ولم أركض من السيارة. لم أختبئ تحت طاولة في بار بعدما انهار أحد جدرانه. لم أفكّر بالشعاع النووي ولا بالنيازك ولا بالحروب العالمية. لم أشعر بالخوف، ولم أمسك بنفسي وأشدّ لكي أتوقف عن الارتعاش. لم أتصل بأمي لأخبرها أن شيئًا فظيعًا قد حصل، ولم أخبرها أنني قيد الحياة.
ولما لا أكون قيد الحياة؟
في طريقنا، توقّف السائق أمام دكّانة واشترينا زجاجتين من الماء. مررنا بمستشفى اوتيل ديو، ولم نرَ جرحى يتدفّقون سيرًا نحو مدخل الطوارئ. في الليلة نفسها، التقينا أنا ورفاقي على الشرفة كالعادة لنشرب كأسًا ونتفرّج على المدينة المظلمة، وننتظر عودة الكهرباء. لم أنهَر من البكاء على أرض غرفتي بعدما رأيت قطّتي المختبئة. لم أقف تحت الدوش لساعة أو ربما أكثر، أنظر بفراغٍ إلى المياه تسيل بين قدميّ، ممزوجةً بغبار المدينة الأسود ودماء الغرباء والصابون.
مضى عامان، ولا أتذكّر إلّا القليل من ذلك اليوم الذي لم يحصل فيه شيء.
عامان لم يُحاسَب فيهما أحد. لم يحاكم أحد. ولم يُسجن أحد. ولم يُقتل أحد.
لم يحصل المستحيل.
بعد أسابيعٍ من ذلك اليوم العادي، غادرت لبنان إلى فرنسا. هنا، التقيت بلبنانيين في كلّ مكان، أشخاص كانوا يسكنون في لبنان وغادروا معي بعد ذلك اليوم. في كل لقاء، كل حديثٍ، ننزلق عاجلًا أم آجلًا إلى ذاكرتنا عنه. نتكلّم عن 4 آب. نعرف أن هذا التاريخ يعني شيئًا، ولكننا لا نتذكّر ماذا.
أحاول أحيانًا أن أعود بالذاكرة لأتأكد ما إذا كان هذا اليوم فعلًا مجرّد يوم عاديّ، أو أنني قد نسيت شيئًا. شيئًا ما قد حصل في ذلك الأوبر، والذي قد يفسّر الحزن الذي يسكن في داخلي منذ حصوله. أبحث عن أدلّة، عن مراسي في الذاكرة. لكنّها تختفي كلما أقترب منها.
صور تذكارية وطوابع لغيمةٍ حمراء فوق بيروت. ماذا تعني؟
مقاطع مصوّرة لانفجارٍ ضخمٍ ممنتج على وقع أغنية «لبيروت». انفجار مرعب، مونتاج جميل.
قطعة زجاج صغيرة عالقة في كعب حذائي المفضّل.
حريق لا ينطفئ في مرفأ مهجور.
حبوب قمح عفنة تشتعل لأيامٍ، على أطراف مدينة لا يجد سكّانها القمح.
دخان أسود كثيف قرب حفرة منسيّة منذ عامين. يقال إنه كان مبنى أهراءات، قبل أن يصبح دخاناً ورماداً. يقال إنه كان يحرس المدينة. ممّن؟
نوبات هلع جديدة، من نوع آخر، تذكّرني بنهاية العالم. أنفاس تنحبس كلّما يتوقّف المترو فجأةً في باريس. دقات قلب متسارعة في الساحات المكتظّة.
شعور دائم أننا كلّنا في خطر.
كل رابع من كل شهر.
أهالٍ يصرخون في الشوارع. يحترقون غضبًا، يولولون عن عدالةٍ ما.
لا أدري، لا يستطيع أحد أن يسمعهم مهما حاول. يعرّفون عن أنفسهم بلجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ. إنّه النادي الوحيد في العالم الذي كلما ازداد عدد المنتسبين إليه، كلما صعبت رؤيته.
أرى كل هذا، ولا أتذكّر إلّا القليل.
هذا ما أتذكّره جيدًا: في 4 آب، شعرت بالحزن.
ليس بعد أيامٍ أو أسابيع من الانفجار. ليس بعد الهدوء أو بعد العاصفة.
لا.
بدأ الحزن على الفور. قبل أن تتوقّف سيارة الأوبر عن الارتجاج. قبل أن تنهار إحدى البنايات وتكاد حجارتها تصيبنا. قبل أن أرفع رأسي من أرض السيارة وأرى السائق مرعوبًا، يختبئ أيضًا. قبل أن أنظر من النافذة وأرى- عبر غيمة الغبار- شبح شوارع مار مخايل المدمّرة وسكّانها المفجوعين.
شعرت على الفور بحزنٍ لم أشعر به من قبل.
أتذكّر جيدًا الفكرة التي خطرت في بالي عند الساعة السادسة وسبع دقائق، وهي أنني لن أعرف الفرح من جديد. ظننت في تلك اللحظة أنني إذا نجوت- إذا نجوت- فسأعيش للأبد في تلك اللحظة، تحت غيمة زجاجٍ وفي وحدةٍ مرعبة ومع حزنٍ عميق. فكرت بكل الذين عاشوا حروبًا وكوارث، كل الذين سقطت عليهم السماء، وفهمت أخيرًا عمّا يتكلّمون.
أتذكّر ذلك الحزن أحيانًا. أزوره من وقتٍ إلى آخر كما نزور صديقاً قديماً، من واجبنا أن نطلّ عليه. لا أعلم لماذا أتمسّك به. لكنني كلّما أغادر، أقفل الباب وأعود وأذكّر نفسي بالواقع. لم يحدث شيء في ذلك يوم.
لم يحدث شيء جديد في ذلك يوم. كان يومًا عاديًا. متوقّعًا، مملًا حتى.
مجرّد يوم عادي في مدينةٍ ينفجر مرفأُها. يُقتل أبناؤها. يختفي خبزها. تنهار مستشفياتها. تتسلّح مصارفها. يُسرق تعبها. تُدمّر معالمها. تموت وتعيش وتموت. ولا يتغيّر شيء. كأن شيئًا لم يكن.