لست أدري ما الذي أريد قوله عن انتفاضة 17 تشرين. فقبل ثلاثة أيّام، أَتْمَمْت كتابةَ مقالٍ آخَر عن الموضوع عينه، ولم أعلم ما الذي ينبغي عليّ قوله فيه، فأفرغت على نفسي، وعلى القرّاء، سوداويّتي التي أحدس الآن أنّه كان يشوبها القليل من النفاق. لكنّني أعلم أين يتموضَع ما أُريد قوله الآن: بين التهكّم على استذكار الانتفاضة في ذكراها السنوية الأولى، وبين الإفراط في المشاعر، مشاعري التي، بالرغم من تفاهتها وابتذالها، أنا متمسِّك بها.
لست أدري ما الذي أريد قوله. لماذا، في الأصل، علينا قول شيء؟ فالانتفاضة حصلت. شاء من شاء وأبى من أبى. صدَّق مَن صدَّق وأنكر مَن أنكر. الانتفاضة حصلت، وحتّى المتهكّمين يعرفون أنها حصلت. أنها وقعت. وأنها كانت، في البعض القليل مِن لحظاتها الكثيرة، جمالاً خالصًا، مُوجِعاً، يفوق قدرة الفرد على التحمّل لوحده، وبما هو فرد فحسب. لقد اجتمعنا في الساحات كي يُعِين واحدُنا الآخرَ في احتمال هذا الجمال كلّه– وفي الدفاع عن أنفسنا في وجه ضربات أعدائنا أيضاً. فقد كنّا جميلين، جميلين بما يفوق أيّ خيال فردي، جميلين معاً.
وكان جمالنا ينبع مِن أنّنا أردنا حياةً كريمة– أجل، كريمة، هذه المُفردة المُبتذلة– لأنفسنا، كلّ واحد منّا لنفسه، ولأحبائه، ولكن لنا كلّنا معاً أيضاً. كنّا كرماء واحدنا مع الآخَر، فلا أكرم وأنبل مِن تمنّي السعادة لمَن لا تعرفه.
معاً اجتمعنا في الساحات راغبين في خلق شيء جميل يتّسع لنا كلّنا من دون استثناء. والحقّ أنّنا توهَّمنا الاقتراب مِن غايتنا، التي كانت لا تزال بعيدةً جدّاً. كنّا في حاجة إلى هذا الوهم، إذ ما مِن شيء في ماضينا كنّا نستطيع الإستناد إليه، ما مِن شيء فيه يُبشِّر بالخير. كان علينا التوهّم أنّ ما نتوق إليه ممكنٌ، وأنّنا دَنَوْنا منه، لأنّ ماضينا خِربةٌ منذ ما قبل ولادة أكثرنا. خِربةٌ ازدادت خراباً مع مرور الزمن.
اجتمعنا معاً، وللحظة امتدّت على لبنان كلّه، استطعنا الوقوف عنيدين بوجه حثالة البشر، أي الطبقة الأوليغارشيّة، وبوجه الدولة المسخَّرَةِ مؤسّساتها، وأجهزتها الأمنية، وأبواقها الإعلامية لإبقاء هذه الطبقة الأوليغارشيّة مُتسيِّدةً على مصائرنا، ومدّخراتنا، وغذائنا، ودوائنا.
واستطعنا أيضاً، للحظة، الوقوف عنيدين بوجه جبّارٍ يتزعَّم تنظيماً جبّاراً. واستطعنا التحديق في عمق عينيه الجذّابتَيْن، المُخاتلتَيْن، والماكرتَيْن– أتلحظون أنّه رجل وسيم؟– فارتعب نصر الله.
للحظة فقط، ارتعب نصر الله وارتعبت الطبقة الأوليغارشيّة. خافت الأخيرة من أنّ نواجهها معاً، فهي تخشى الشعب. لذا راحت تُكيل علينا الضربات علّنا ننبطح أرضاً، وكانت إحدى ضرباتها الأكثر إيلاماً سرقتَها أموالنا المودعة في مصارفها. وخاف نصر الله. شعر– ربّما لبضعة أيام فحسب– بأنّه أمام مجهولٍ مُخيف؛ شعر ببدنه– ربما لبضع ساعات فحسب– يرتعد أمام مشهد مَن انتفضوا عليه مِن أبناء طائفته، التي هو أميرها. خاف نصر الله، فانقضّ علينا، وعلى أبناء طائفته بصورة خاصة، يُعاونه في ذلك حليفه الشيعي، برّي، فأرسلا لنا شباب طائفتهما ليضربونا ويذلّونا، وليذلّوا أنفسهم مِن شدّة خنوعهم لسيِّدهم– كَمْ أُريد لهم حياة كريمة، حياة لا يهبهم إياها لا أنا ولا نصر الله ولا أحد، وإنّما يأخذونها بأيديهم! خاف نصر الله لأنّه أبصرَ جمالَنا، وأدرك مدى قوَّتِنا الكامنة، التي، لو استطعنا استخراجها كلّها، لربّما كانت كنسته. لكن مَن يدري ما الذي كان يمكن تحقيقه؟
في لحظات كنّا فيها معاً على الطُّرق وفي الساحات، كان فرحٌ موجِعٌ، فرح عظيم وموجِع، يستحوذ علينا. كأنّما نتنشَّق. كأنّما للمرة الأولى نتنفّس. حينذاك، ولأشهر قليلة، لم تعد مُدننا سجوناً ضيّقة ووسخة، بل استحالت فضاءات رحبة تستريح فيها أجسادنا المُكتئبة. شعرنا بالحرية، والبعض، مثلي أنا، لربّما شعر بها للمرّة الأولى في حياته. شعرت أنني حرّ، وأنّ مَن يهبني حريّتي هم أولئك الذين حولي، ولذلك شعرت بالامتنان، بالامتنان لكم. حريّتي تلك هي حريّتنا جميعنا معاً، والتي وهبها واحدُنا للآخَر.
هناك، في ساحات حريّتنا، عشنا معاً فواجعنا الخاصة والمُشتركة. هناك، في تلك الساحات، وعلى تلك الطُرق، اختبرنا الفرح المجنون، والحبّ. أعتقد، وبالرغم من الخصومات الكثيرة بينكم، أنّكم لم تَبْخَلوا بحبّكم. ففي الأسابيع الأولى للانتفاضة، شعرت بأنّني بمنأى عن أيّ خطر، شعرت بذلك لأنّ حبَّكم غلَّفني كطفلٍ، وجعلني، أحياناً، أُصدِّق أنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام.
لكن ما مِن شيء بقيَ على ما يرام. عَجِزْنا عن تحقيق ما رسمناه في مُخيّلاتنا، عَجِزْنا عن فرض ما نُريد. ومع مرور الأشهر، أخذ بلدنا يموت. وفي الأثناء، تبدّى لنا أنّ النظام يستطيع الاستمرار بلا بلد. يستطيع الاستمرار طويلاً، طالما أنّ هناك شيئاً يُمكن نهبه من الجثّة.
ما مِن شيء بقيَ على ما يرام، فانهالت علينا الكوارث والجرائم، أشدُّها هولاً، وقتلاً، وتدميراً، انفجارُ الرابع مِن آب. ما مِن شيء بقي على ما يرام، فسقط كثيرون في الفقر وتهشَّمت أحلامهم.
وكان ثمّة إحساسٌ بالعجزِ ثقيلٌ ثقيل. فبدأنا نشكّ بأنفسنا، وشرعنا نبحث عن أخطائنا. وبالفعل، كانت هناك أخطاء كثيرة، فأخذ كثيرون يتحسَّرون على ما فوّتناه.
لكنّ الحسرة هذه سببها الرئيسي عِلْمنا، الضبابيّ بعض الشيء، بأنّ الانتفاضة انتهت. تفزعنا نهايتها، يُفزعنا أن تكون قد انتهت. لأنه، حينئذٍ، لن يتبقّى لكثيرين أيُّ شيءٍ في هذا البلد: لا عمل، ولا منزل، ولا دواء، ولا حتّى طعام. ثمّة إحساسٌ بأنّ نهايةَ الانتفاضةِ حُكمُ إعدامٍ بحقِّنا.
ما زلت لا أعلم ماذا أريد أن أقول. ربّما لا شيء. يبدو أنّني انزلقت نحو المشاعر مُبتعداً كثيراً عن التهكّم. قد تكون الكتابة عن الانتفاضة في ذكراها السنويّة الأولى، مِن أتفه ما قد يُقدِم كاتبٌ عليه. لعلّ السكوت أجدى لي إذاً. غير أنّني أشعر أنّ هناك شيئاً أخيراً ينبغي قوله، عن الانتفاضة، لست أدري تماماً ما هو. قد يكون أنّني أشعر بالامتنان، امتنان هائل لأنّ الانتفاضة حصلت. فهل أقبح مِن عالَمٍ نعيش فيه الويلات التي نعيشها الآن في عالمنا هذا، لكن حيث لم تحدث الانتفاضة؟