قبيل الارتطامات الكبرى، أو بالتوازي معها، تنشأ في السياسة معارك السرديات، أي السجالات التي تحاول أن تسوّق هذه الحكاية أو تلك لما جرى أو لمن يتحمّل المسؤوليّة. لا تهدف هذه المعارك في العادة إلّا لتقاذف المسؤوليّة أمام التاريخ والرأي العام، ولترسيخ تفسيرات معيّنة لما يحدث في الذاكرة الجماعيّة للمجتمع.
خلال الأيام الماضية، حفلت الأحداث بهذا النوع من المعارك والسجالات، دون أن يكون لهذه الأحداث أي غرض باستثناء خوض «معركة سرديّة الانهيار».
مقابلة سلامة: وقاحة المقامر
حفلت مقابلة رياض سلامة الأخيرة بما يمكن أن يتهكّم عليه المرء لأسابيع:
القطاع المصرفي غير فعال، لكنّه لم ينهَر بعد، طالما أنه لم يفلس. فالودائع موجودة، والهدف هو أن تظل موجودة. أما الصعوبات الاقتصاديّة والماليّة، فليست سوى نتيجة مآزق سياسيّة أو صحيّة: الشغور الحكومي والتجاذبات السياسيّة، إنفجار المرفأ، تفشي كورونا... وبالتأكيد قرار التخلّف عن دفع اليوروبوند المشؤوم، الذي يفوز بلقب «أب وأم الانهيار» في سرديّة المصارف والحاكم ومَن يدور في فلكهما من إعلاميين وسياسيين.
باستثناء تكرار وعده بدفع جزء من الودائع نقداً، لم تخدم المقابلة أي وظيفة غير تسويق تفسير الحاكم لما جرى من أحداث، حيث بدا أشبه بمدين مقامر حشرته خسائره الفادحة، فراح يستميت لتبريرها أمام الجميع، ولو برواية ركيكة بائسة.
ألا يرى الرأي العام أن أزمة القطاع المالي بدأت قبل التخلّف عن دفع اليوروبوند بسنوات؟ أولا يعلم الجميع أن انهيار المصارف حصل قبل هذا التخلّف بأشهر؟ أولم يكن واضحاً أن التعثّر في دفع السندات نتج عن أزمة السيولة في القطاع المالي، لا العكس؟ وما معنى القول إنّ المصارف لم تفلس، ما دامت غير قادرة على سداد إلتزاماتها بشهادة كل من يزور فروعها؟ وما معنى القول إنّ الودائع موجودة، في حين أنّ فجوة الخسائر لا تعني سوى أن هذه الودائع موجودة على الورق فحسب، كإلتزامات على المصارف دون أموال سائلة تمكنها من سدادها؟
وزني: من أين ستأتي أموال البطاقة؟
لم يجد دياب سبيلاً لتأمين الدولارات المطلوبة لتمويل البطاقة التمويليّة، خصوصاً أن أجواء المجلس المركزي لمصرف لبنان والعديد من الكتل النيابيّة لا تتجاوب مع فكرة استعمال احتياطي المصارف الإلزامي لهذه الغاية. رمى دياب كرة النار إلى ملعب وزير الماليّة الذي وقع مرسوم مشروع القانون وأحاله للمجلس النيابي لتأمين الاعتماد المطلوب في الموازنة، دون أن يضمّن اقتراحه أي مصدر تمويل واقعي.
بدت خطوة دياب، ومن ثمّ وزني، أشبه برفع العتب عنهما، لعدم تحمّل المسؤوليّة التاريخيّة عن رفع الدعم دون وجود بطاقة تمويليّة تحمي الفئات الأكثر هشاشة، ولو أنهما يعلمان أن إرسال مشروع القانون بهذا الشكل لن يؤدّي إلا إلى فشل المشروع بأسره لعدم وجود مصادر تمويل له. ومرّة جديدة، بدا أن أولويّة الجميع هي التملّص من مسؤوليّة الارتطام الكبير في الذاكرة الجماعيّة وفي عيون الرأي العام. وقد أتى تقاذف المسؤوليّة بهذا الشكل، على حساب المبادرة والبحث عن حلول واقعيّة ومعقولة، إذ لا يبدو أن أي طرف سعى حتّى اللحظة للعثور على حلول منطقيّة وبنّاءة لمرحلة رفع الدعم.
منازلة المجلس النيابي
لم يكن هناك أي معنى لرسالة رئيس الجمهوريّة الأخيرة للمجلس النيابي، خصوصاً أنّه كان يعلم أن النصوص الدستوريّة المتاحة لا تفتح المجال أمام أي طريق لسحب تكليف الحريري. لا بل كان يدرك الرئيس أيضاً أن فتح باب الإجتهاد لتفسير النصوص الدستوريّة بشكل مختلف، أو تعديل النصوص نفسها، مسألة دونها عقبات كبرى، وخصوصاً من ناحية «التوازنات الميثاقيّة»، أو بالأحرى توازنات القوة التي تحكم علاقة الطوائف ببعضها بعضاً من داخل المؤسسات الدستوريّة.
ما المطلوب إذاً من تلك الرسالة ومن تلك العراضة التي أثارها الرئيس في المجلس النيابي؟ خصوصاً أن كل ما أنتجته لم يكن سوى منبر ألقى من خلاله الحريري قذائفه المتفجّرة في وجه العهد وممارساته، وردود وتبريرات من جبران باسيل إنتهت بسؤال وجّهه له رئيس المجلس النيابي: ماذا تقترح؟! لينهي جبران خطابه بمناورة ركيكة لوّحت بالانتخابات المبكرة.
مرّة جديدة، لم يكن الهدف البحث عن حلّ، بل رمي المسؤوليّة في ملعب الآخرين، ورسم سرديّة مختلفة عمّا جرى، ترفع اللوم عن العهد في ما يتعلّق بتعطيل السلطة التنفيذيّة والشغور فيها، ولو أنّ هذه العراضات جاءت كبديل عن البحث عن الحلول المطلوبة.
يقودنا كلّ ذلك إلى استنتاج وحيد: الجميع مفلس، سياسياً ومالياً ونقديّاً... وجعبة جميع الأطراف فرغت من الحلول، لأسباب يختلط فيها الشحّ المالي بتضارب المصالح وتناقض الأولويات. لكنّ النتيجة البديهيّة اليوم ليست سوى المراوحة، وخوض معارك وعراضات هامشيّة وغير مثمرة، ليسوّق كل طرف فيها روايته لما يحصل.