لم يعد هناك سبب للتفاجؤ بتلقي الأجهزة القضائيّة اللبنانيّة طلبات تعاون من الدول الأوروبية، لتقصّي المعلومات الماليّة حول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. طلب التعاون الألماني الأخير هو الرابع، بعد تلقّي لبنان طلبات مماثلة من سويسرا وفرنسا ولوكسمبورغ. أما عدد الدول الأوروبيّة التي فتحت ملفّات تحقيق بارتكابات الرجل، فأصبح اليوم ستّة، شاملًا كلاً من: بريطانيا وليختنشتاين وفرنسا ولوكسمبورغ وسويسرا وألمانيا. وإذا ما أضفنا لبنان إلى القائمة، تصبح النتيجة أننا نملك حاكم مصرف مركزي تُحقِّق في أمره النيابات العامّة في سبع دول مختلفة.
إلا أنّ اشتداد الضغوط القضائيّة محليًّا ودوليًّا على سلامة، لم يعنِ بالنسبة إلى الرجل إلّا الإمعان بالاستخفاف بالرأي العام المحلّي، من خلال نوعيّة الردود على الاتهامات الموجّهة له. كما لم تعنِ هذه الضغوط إلا تسعير حملة الدفاع السياسي والإعلامي والقضائي عن الرجل، ولو باستخدام حجج ركيكة قياسًا بنوعيّة التهم الموجهة له.
إعلام المصرف
ثمّة إجماع قلّ نظيره لدى وسائل الإعلام التقليديّة على منح سلامة غطاء إعلامياً في مواجهة ضغوط المحاكم الأجنبيّة والمحليّة. فباستثناء صحيفتين محليّتين، تجنّدت جميع محطّات التلفزة المحليّة والصحف اليوميّة للدفاع عن حاكم مصرف لبنان:
- ذهبت بعض المحطات إلى وصف أداء القاضي جان طنّوس المكلّف بمتابعة الملف محليًّا «بالتخبيص»، نقلًا عن مصادر قضائيّة مجهولة. مكمن التخبيص المشار إليه هنا ليس سوى محاولته ربط المعلومات المتوفّرة لديه بمعطيات التحقيقات الأجنبيّة، ومحاولته إلقاء الحجز على ممتلكات سلامة لمصلحة الدولة اللبنانيّة، قبل أن يتمّ الحجز عليها لمصلحة الدول الأوروبيّة.
- اختارت بعض الحملات الإعلاميّة التركيز على الآثار «المدمّرة» التي ستنتج عن أي مساس بالحاكم، وخصوصًا لجهة الأثر على سعر صرف الليرة ومصداقيّة المصرف المركزي ومفاوضات لبنان مع صندوق النقد. وتناست هذه الحجج أنّ لا شيء يدمّر مصداقيّة مسار التعافي المالي اللبناني أكثر من وجود حاكم للمصرف المركزي متّهم بجنايات تبييض الأموال والكسب غير المشروع وإساءة استعمال النفوذ.
- في المقابل، كان ثمّة من يريد التصويب إعلاميًّا على محاولات العهد وجبران باسيل الاستثمار سياسيًّا في قضيّة رياض سلامة، في محاولة لفرض استقطاب ذات طابع سياسي حول الموضوع، بدل توجيه النقاش نحو طبيعة التهم الموجهة إلى سلامة وأثرها على استمراره في منصبه.
في خلاصة الأمر، كان من الواضح أن تبادل المصالح المعتاد بين وسائل الإعلام التقليديّة والقطاع المصرفي، وتحديدًا حاكميّة مصرف لبنان، قد لعب دوره في توجيه بوصلة التغطية الإعلاميّة لخدمة رياض سلامة، وهو ما مهّد الطريق لسلامة للتمكّن من استخدام أكثر الحجج هشاشة للدفاع عن نفسه.
حجج الحاكم والمصارف
في مواجهة الضغوط الخارجيّة، ذهب الحاكم ومن تكاتف معه من مصارف إلى أكثر الحجج هشاشةً للتمنّع عن التعاون مع التحقيقات المحليّة والأجنبيّة:
- أعلن الحاكم أن عمليّة التدقيق التي أجراها لشركاته وحساباته بنفسه، عبر شركة محاسبيّة محليّة، أظهرت أن الأموال المحوّلة إلى أوروبا لم تأتِ من «المال العام». وبذلك، كان سلامة يتذاكى على الاتهامات الموجهة له، إذ أن «شركة فوري أسوسيتس» التي يملكها شقيق سلامة غير متهمة بتلقي أي أموال بشكل مباشر من الخزينة أو حسابات مصرف لبنان، بل بتلقي عمولات من المصارف لقاء بيعها سندات الخزينة اللبنانيّة. وقد تحقّقت هذه العمولات بفضل عقد وساطة أعطاه المصرف المركزي للشركة، بتوقيع الحاكم نفسه.
- من جهة المصارف، كان السلاح الأبرز الذي تم استعماله لمواجهة طلبات التعاون القضائي هو قانون السريّة المصرفيّة، للامتناع عن تسليم داتا الحسابات المصرفيّة الخاصّة بشركات شقيق سلامة. مع الإشارة إلى أن قانون السريّة المصرفيّة الذي تتذرّع به المصارف، يستثني قضايا الإثراء غير المشروع — وهي التهمة الموجهة إلى سلامة- من موجبات السريّة التي ينص عليها هذا القانون.
في ظل الالتفاف الذي يحظى به سلامة إعلاميًّا وسياسيًّا، كان بالإمكان تسويق حجج هشّة من هذا النوع، للتمنّع عن التعاون مع جميع التحقيقات المحليّة والأجنبيّة.
مَحمِيّ حتّى إشعار آخر
حتى إشعارٍ آخر، سيظل حاكم مصرف لبنان محميّاً في مواجهة الدعاوى القضائيّة الموجهة ضدّه في محاكم لبنان وأوروبا. وتتنوّع علامات هذه الحماية: من تمكّن المصارف من التمنّع عن تسليم داتا الحسابات المصرفيّة، إلى حرص النائب العام التمييزي غسان عويدات على الحدّ من تبادل المعلومات بين التحقيقات اللبنانيّة والتحقيقات التي تجري في أوروبا.
ببساطة، يبدو بقاء سلامة في منصبه مطلوباً في الوقت الراهن، بدعم سياسي وقضائي وإعلامي قلّ نظيره. فوجوده في حاكميّة مصرف لبنان كفيل بالإطباق على أسرار داتا المصرف المركزي، التي لم تتمكّن حتّى اللحظة شركة التدقيق الجنائي من التحقيق فيها. ووجوده صمّام أمان للمنظومة الماليّة التي تستفيد من تعاميمه لهندسة الانهيار بعيدًا عن أي خطّة ماليّة واضحة المعالم.