تحليل فاشيّة
لبنى الشرفاتي

السيّدة جورجيا ميلوني ونظريّة «أوّل امرأة» 

5 تشرين الثاني 2022

الجمعة 22 تشرين الأول 2022: لم تستطع السيّدة جورجيا ميلوني إخفاء توتُّرها وهي تعلن فوز تحالفها في الانتخابات واستعدادها لتشكيل الحكومة. أوّل امرأة تشغل منصب رئاسة الوزراء في إيطاليا. قُدِّم الحدث على أنّه سابقة تاريخية في بلاد ما زال النقاش فيها يدور حول تكافؤ الفرص لترقّي السلم الاجتماعي، وفي عالمٍ ما زالت فيه رئاسة الوزراء من طرف امرأة أمراً غير عادي. فعلى مرِّ العصور، ارتبطت القيادة السياسية بالذكورة، حتى في الدول «الأكثر تقدّماً». لذلك ما زال يُحتفى بفكرة أوّل امرأة. وفي سياقات أخرى، بأوّل رجل من أصول إفريقية أو عربيّة. تعطي هذه العبارة الانطباع أن المجموعات التي لا تتوفر لها نفس حقوق المجموعة المهيمنة، ذوي البشرة البيضاء أو الرجال، قد كسرت العائق الشفّاف الذي يفصلها عن المناصب العليا في المجتمع. 

فهل الأمر حقَّا كذلك؟

ليست المرة الأولى التي تتولى فيها امرأة سدّة رئاسة الوزراء. في السابق، تولّت إنديرا غاندي و بِينَظِير بُوتُو رئاسة وزراء الهند وباكستان، لكن هل عكس ذلك وضعية حقوق المرأة في البلدين؟ فالسيّدتان لم تتدرّجا في سلّم حزبيهما حتّى الوصول إلى القمّة، بل كانتا سليلتَيْ عائلات نافذة ومتجذّرة في السياسة، تتوفّر لهما شبكات من العلاقات والتحالفات، ما أوصلهما في ظروف استثنائية إلى سدّة الحكم. كانتا ابنتي النظام الحاكم ولَيْسَتَا بالغريبتين عنه، وضَعَهُما رجاله على طريق الرئاسة حتى لا ينهار. كذلك الحال بالنسبة للسيّدة جورجيا ميلوني. فلم يختَرْها أعضاء الحزب، وأغلبيتهم من الرجال، إيماناً منهم بالمساواة أو تمكين المرأة. فهم يعتبرون أن وظيفة المرأة هي إنجاب أكبر عدد من الأطفال لمواجهة الأزمة الديموغرافية. اختاروها لأنّها الورقة التي يمكن من خلالها ربح الرهان في سباق الانتخابات.


السيّدة جورجيا ميلوني والفاشيّة الجديدة

السيّدة جورجيا ميلوني من مواليد سنة 1977 في روما. كفاءاتها العلمية الوحيدة هي بكالوريا في اللّغات، رغم أنّه لا يمكن القول بأنّها تجيدها بدقّة. لكن مجرّد محاولة التحدّث بهذه اللغات اعتُبِر شيئاً جديدًا بالمقارنة مع السائد في الساحة السياسية الإيطالية. أمّا تجربتها العملية فتتلخص في وزارة الشباب في حكومة برلسكوني سنة 2008.

بدأت السيّدة جورجيا ميلوني مسيرتها السياسية من شبيبة الحزب الاجتماعي الفاشي الجديد، ولها تاريخ طويل من تبنّي خطاب من الكراهية. فقد سبق لها وامتدحت علانيةً «بينيتو موسوليني» في أحد حواراتها، واعتبرته أحسن سياسي في الخمسين سنة الأخيرة. كما تبنّت آراء عنصرية تصنّف المهاجرين فيها إلى طبقات حسب جنسياتهم وديانتهم. وصرّحت في أحد خطاباتها أنها تفضّل أن يُستقدَم الفنزويليون الذين يموتون جوعًا والذين يدينون بالمسيحية أي أقرب ثقافيا للإيطاليين، ناهيك عن مواقفها المعادية لحقوق مجتمع الميم. لطالما تَهرّبت السيّدة جورجيا ميلوني بهذا الخطاب المبني على كراهية كل ما ليس «إيطالياً- مسيحياً» من الأزمات الحقيقية التي تعيشها البلاد، من فوارق جهوية وضعف الترقي الاجتماعي والبطالة والدَّيْن العام الذي يُعدّ الثاني أوروبياً بعد اليوناني.

فما أهميّة أن تكون أوّل امرأة أو ثاني امرأة تحكم بلاداً، إن كانت تتبنى أفكاراً رجعيّة وذكوريّة؟ تطمح السيّدة جورجيا ميلوني الى إيطاليا شوفينية ذات ثقافة «يهودية- مسيحية» حصرًا. وتنتمي إلى حزب ذي عقليّة أبويّة، شعاره الرّب، الأسرة، الوطن، يناضل ضد الاختلاف العرقي والجنسي والثقافي، ويحمل مشاريع قوانين معادية لحقوق الإنسان، مثل إلغاء تجريم التعذيب من طرف الشرطة، كما يطالب بقوانين لترخيص حمل السلاح تحت ذريعة الدفاع عن النَّفْس وبفرض الحصار البحري على ليبيا بحجّة لجم الهجرة غير الشرعية وبتخفيض المساعدات الحكومية للفئات الهشّة وبدعم الأغنياء بتخفيض نسبة الضريبة على دخلهم السنوي. كما أنّ وزيرَين ممّن عيّنتهم تدور حولهم شبهات تضارب المصالح: السيد اكْرُوِزيتُّو الذي اشتغل في تجارة السلاح والذي حصل على حقيبة الدفاع، ووزيرة السياحة السيدة سَنْتانْكِيه التي تملك منتجعات سياحية.


السيّدة جورجيا ميلوني وسلطة الرجال

تعزو مجلّة ميكروميغا فوْز السيّدة ميلوني إلى كونها أصبحت علامةً تجاريةً، نجاحها يعتمد على مئات الصور المنتشرة لها على كافة أنواع وسائل الإعلام، والتي غالباً ما تكون جذّابة كأغلفة مجلات الموضة. وقد ساهم سيلفيو برلسكوني، رجل الأعمال والسياسي المحنّك، في حملة الدعاية هذه، من خلال سلسلة القنوات التلفزيونيّة والجرائد التي يملكها. وهذا ضِمْن استراتيجيته للوصول الى رئاسة الجمهورية التي تستوجب على حد تعبيره إيصال الفاشيين الى البرلمان، حيث أن البرلمان الإيطالي هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية. 

وحسب المجلّة ذاتها، عزّز نجاح السيّدة جورجيا ميلوني في الانتخابات سلطة الرجال في البرلمان الإيطالي، حيث تضاءلت نسبة النساء من 35٪ سنة 2018 الى 32٪ حاليًا، كما لم تضمّ الحكومة الجديدة إلّا ستّ نساء فقط من أصل أربعة وعشرين وزيراً، إحداهنّ السيّدة أوجينيا روتشيلا التي صرّحت أنّ الإجهاض لا يُعتبر حقًّا، فتسلّمت وزارة الأسرة وتكافؤ الفرص. خلْف صورة أول امرأة، عاد الى قلْبِ البرلمان ثلاثةُ رجالٍ من أقدم السياسيين، في العقد السابع والثامن من أعمارهم، من بينهم برلسكوني المتورّط في فضائح سياسية و أخلاقية.  

أكثرِ رَجُلَيْن وَاكبَا السيّدة جورجيا ميلوني بخبرتهما الطويلة في مجال السياسة وإدارة الأعمال هما كويدو اكْرُوِزيتُّو وإنيازيو بينيتو لاروسّا، مؤسِّسَي حزب إخوة إيطاليا، الذي توّج سنة 2012 ستّين سنة من تجربة الفاشية الجديدة. وبالفعل، ما إن فازت السيّدة جورجيا ميلوني في الانتخابات حتى توارت عن الأنظار، وترَكَت الرّجال المحيطين بها الأكثر خبرة يلعبون دور الزّعامة عِوَض الزعيمة.1 ففي الندوة الصحفية التي تلت فوز ميلوني، تم إرسال السيّدين لوللّوبريجيدا ودونزيللّي مكانَها لتحليل نتائج الانتخابات. هذا بالإضافة إلى أنّه، بحسب مجلة ليسبريسو، بات هناك العالم الجديد الذي سَيَحْكُم المكوّن من الرجال الذين تمّ استوزارهم. 

لعلّ خلاف السيّدة جورجيا ميلوني مع السيد برلوسكوني ومع السيد سالفيني مؤشّر على بعضِ التحديات التي ستُواجِهُهَا لفرْض سلطتها على رجالٍ تدين لهم بوصولها الى كرسي الرئاسة، خصوصاً في بلدٍ تنهار فيه الحكومات بسبب هشاشة التحالفات. فالسلطة ليست لقبًا بل ممارسةٌ يوميّة، تعتمد على كفاءة الفرد واستعدادِه الشخصي. السلطة الرسمية تُعاد صياغتها بواسطة السلطة غير الرسميّة للعلاقات بين الأفراد.


«الرئيس» السيّدة جورجيا ميلوني 

ما أُطلقُ عليه «نظريّة أوّل امرأة» هو طريقة صنع خطاب ترويجي في إطار الحملات الإنتخابية، مبنيٌّ على استعمالٍ نفعيٍّ لحقوق النساء لجلب أكبر عددٍ من الأصوات واستدرار التعاطف، وليس عن توجّه إيديولوجيٍّ مُرْفقٍ بِبرنامجٍ لتطبيقه. وهذه الإستراتيجيّة غالباً ما تشغل الانتباه عن أسئلةِ الكفاءة والأحقيّة وجوْدة المشروع السياسي. 

أبرز مثال على الاستعمال البراغماتي لعبارة «أوّل امرأة» جاء في أحد خطابات هيلاري كلينتون خلال حملتها الإنتخابية: ألا تَوَدُّون أن تَرَوْا امرأةً رئيسةً في يومٍ من الأيام؟، وكأنّه من المفترض أن تفوز فقط لأنّها امرأة، وأنّ نغضّ النظر عن كونِها زوجة رئيسٍ سابقٍ وإبنة النظام الأميركي بحكم تكليفها بمناصب وزارية من قبْل، وأنّ حظوظها كانت أكثر من العديد من الرجال في الحزب الديموقراطي.

في الواقع، لا يعدو الأمر كونه إنجازاً فرديًّا استثنائيًّا توفّرت له الظروف الملائمة، إلى جوار مرونة الشخص وتكيّفه مع قواعد الحزب ومَنطِقِهِ. ولا يعكس بالضرورة تحسّن ظروف المجموعات التي ينتمي إليها، بل وقد يكون ضد مصالحها. وخير مثالٍ أنّ توَلِّي أوباما الرئاسةَ لولايتَيْن لم يمنع استمرارَ الممارسات العنصريّة ضدّ السُّودِ في الولايات المتّحدة الأميركية. 

وعلى هذا النحو، كَوْن السيّدة جورجيا ميلوني امرأةً، لا يعني أنّها ستدافع عن حقوق النساء. فهي، مثلًا، تعترض على نظريّة الجندر، وتربط تكافؤ الفرص بالأسرة، أي أنّ المرأة التي تحظى بأولوية الرعاية من الدولة هي التي لها أطفال. وحتّى على مستوى الألقاب، السيّدة جورجيا ميلوني لا تحبّ استعمال المؤنث لمناداتها، لأنّه يشعرها بالتمييز، وقد اختارت أن تتمّ مناداتها برئيس الحزب ورئيس الوزراء،2 عوض الكلمة المؤنثة «رئيسة»، وهي الكلمة الصحيحة في اللغة الإيطالية، بل أكثر من ذلك: قرّرت أن تصبح «السيّد» رئيس الوزراء، وكأنها تستعر من جنسها، وهي التي ردّدت في حملتها الانتخابية شعار أنا امرأة، أنا أمّ، أنا إيطالية.

صحيح أنّ تقلُّد المرأة لأعلى المناصب يعطي المثال والقدوة لباقي النساء اللاتي يملكن نفس الطموح، ولكن على المستوى الكمّي لا يتعدّى الأمر أن يكون ذا قيمةٍ رمزيةٍ. يجب أن يكون الاهتمام منصبًّا على مدى تكافؤ الفرص في جميع ميادين سوق العمل، وعلى سلّمٍ أكبرٍ، هذا ما يخلق الفرْق ويعطي مؤشراً حقيقياً على وضعيّة النساء في مجتمعٍ ما. لا يكفي جنس السياسي، بل يجب الالتفات إلى قناعاته الايديولوجية ومصالحه السياسية. وللتذكير، فإنّ قاسم أمين الذي كان من أوائل المطالبين في مصر بتمكين المرأة كان رجلاً. وفي انتظار أن يصبح تقلّد النساء لأعلى المراتب في الدول، شرقاً وغرباً، أمراً عادياً، و يصبح الحديث عن الكفاءة والشفافيّة هو العنوان المتصدّر في الصحافة، ما رأيكم أن نمرّ على أوّل امرأة تقضي أقصرَ مدّةِ حُكْم في بريطانيا وأوّل رئيسِ وزراءٍ-مليونير- من أصولٍ هنديّةٍ يعقبُها؟ 

  1. جريدة L'espresso، 2 تشرين الأول 2022، صفحة 22.
  2. جريدة L'espresso، 25 أيلول 2022، صفحة 16. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نتنياهو يهدّد المحكمة الجنائية وكل من يتعاون معها
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
21-11-2024
أخبار
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
25 شهيداً في عدوان يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2024
3,583 شهيداً، 15,244 مصاباً
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة