تحليل مقاطعة / مشاركة
هاني عضاضة

ها قد انتهت الانتخابات، ماذا بعد؟

10 حزيران 2022

المستحيل الذي مات والممكن الذي ارتضيناه

لقد طويت صفحة انتفاضة تشرين الأول 2019 مع خوض المجموعات المعارِضة سباق الانتخابات النيابية الأخيرة. 

ذهبت نداءات مقاطعة الانتخابات أدراج الرياح، ولم تُتَّخَذ أية مبادرةٍ جماعية جادّة لإطلاق حملة سياسية معارِضة، تهدف إلى تصعيد المجابهة مع قوى النظام، في ملعبٍ لا تحبّذ الأخيرة اعتماده، ما كان قد يتيح فتح احتمالات متعدّدة. ربّما كان الجزء الأكبر من هذه الاحتمالات منفّرًّا لمن لا يزال يعوّل على منطق الخرق و«التغيير من داخل» الأطر المؤسساتية المهترئة للنظام. وهذا أمرٌ يمكن تفهّمه بالكامل، في ظل سطوةٍ مقلقة لحزب الله على الحياة السياسية اللبنانية، وعودة ظهور خطاب «الأمن الذاتي» على مستوى القاعدة الحزبية للقوّات اللبنانية، خاصةً بعد أحداث الطيونة في تشرين الأول 2021. فرضت هذه الأحداث نفسها على مستوى الشارع، متصلةً بسلسلة أحداثٍ أمنية سابقة ولاحقة، من اشتباكات مسلّحة ونزاعاتٍ ذات بعدٍ مناطقي و/أو طائفي واغتيالات أمنية وسياسية، فصار صندوق الاقتراع ملاذًا آمنًا بالنسبة للغالبية من القوى التشرينية.

لقد ماتت الانتفاضة التي اندلعت إثر حرائق وضرائب وأيام صعاب، أصيبت بفيروس كورونا، وفيروسات أخرى لم يعد هناك من فائدة لذكرها، وكانت في عداد الموتى. وإكرام الميت، كما يُقال، هو دفنه. لم يتقبّل آخرون هذه الحقيقة المرّة إلّا بعد استنزاف أنفسهم وآمالهم وسط دوامةٍ لا أفق لها. حتّى أنَّ بعض النخب كانت، ولا تزال تظنّ، بأنّها «ممثّلة الانتفاضة»، وذلك أمرٌ عجيب. فلا الانتفاضة كانت حراكًا للنخبة، ولا شهدت عملية انتخاب لقياداتٍ شعبيّة تمثّلها، لا مجالس ولا لجان ولا أفراد. ثم ارتضى الجميع، باستثناء قلةٍ قليلة، انتظار الانتخابات النيابية، وتوجيه كلّ القدرات والإمكانات البشرية والمادية نحوها، بعد أكثر من عامين من الركود التنظيمي، وعدم التوجّه نحو دمج التشكيلات الصغيرة التي أخذت بالتعفّن ضمن حزبٍ قادرٍ على المواجهة، أو بالحد الأدنى جبهة سياسية متّحدة. وكان القرار بالدخول مجددًا في ساحة معركة يحدّد النظام أطرها وحدوها، ويبتلع ما ينتُج عنها، ويعمل على هضمه لتزييت محرّكه التشريعي، وهكذا حصل بالفعل.

لكن لا بأس بقلب بعض الأوراق، وببعض «الخربطة»، بين الحين والآخر. ولهذا السبب بالذات، تراجعت القلّة المتبقية عن قرار المقاطعة، كونها تحوّلت إلى ممارسةٍ فردية لا طائل منها. فلم تنجح القلّة في إنتاج أي حملاتٍ سياسية معارِضة من موقع المقاطعة، وبالتالي فقدت المقاطعة طابعها السياسي، في لحظةٍ تطلّبت نضالاً جماعيًا، وإلا فتكون المقاطعة مجرّد ترفٍ فكريّ. وأذكّر هنا بكلام لينين بحسب التقرير السياسي للجنة المركزيّة للحزب الشيوعي الروسي (البلشفي) في المؤتمر السابع في آذار 1918: والسياسة تبدأ حيث يوجد الملايين من الرجال والنساء، لا حيث يوجد الآلاف، بل الملايين، هنا تبدأ السياسة الحقيقية. بالطبع لا مجال للمقارنة عدديًّا بين لبنان وروسيا، ولكن من هذا المنطلق نفسه، كانت المشاركة، لا في الاقتراع وحده، بل في التشجيع على الاقتراع، ولو على مضض.


صراع من أجل البقاء

مرّت الأيام الصعاب، لكنّ القادم من أيامٍ أصعب. وطبيعة الصراع الذي يسود أغلب المجتمع قد ارتقت منذ مدّة إلى صراعٍ من أجل البقاء، وليس من أجل التغيير السياسي. وما يزيد الطين بلّة، هو مخطط جمعية المصارف، التي لا تكتفي بعرقلة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو أهون الشرَّيْن أمام الواقع المعيشي، عبر رفض مسودّة «خطّة التعافي»، بل تتشبّثُ بتوسيع رقعة الدمار الذي لحق بنا جميعًا، متهرّبةً من تحميل أي خسائر للمصارف وأصحابها. وقد تعدّى موقفها ذلك، لتطالب بخصخصة الأصول العامة، تحت عناوينٍ ضبابيّة وبطرقٍ التفافية، بغية إعادة رسملة قطاعٍ منتهي الصلاحية. ويصرّ حزب الله على زيادة جراح اللبنانيين عبر فرض حكومةٍ توافقية، أي حكومةٍ غير منتجة وغير فاعلة يسودها التعطيل. وفي كلام رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» محمد رعد، بعد إعلان نتائج الانتخابات، ما يكفي من العِبر: 

إذا لم تريدوا حكومةً وطنيّة فأنتم تقودون لبنان إلى الهاوية، وإياكم أن تكونوا وقود حرب أهلية، فنحن نرتضيكم أن تكونوا خصومًا لنا في المجلس النيابي، لكن لا نرتضيكم أن تكونوا دروعًا للكيان الصهيوني.

قلّةٌ من المجتمع هي التي تراقب عن كثب نشاط البرلمانيّين الجدد. وسكرة فوزهم ببضعة مقاعد نيابيّة لم تنتهِ بعد، وهو أمرٌ لا يعني الناس المسحوقين حقًا. فأكثرنا لا يعوّل على أقليّةٍ نيابية، أكثر ما يمكنها تحقيقه هو تفجير قنابل صوتيّة داخل مبنى تحاصره شياطين المصارف والطوائف. ومع ذلك، فقد كان الموقف بعد فرض معركة الانتخابات على الجميع، هو التعبئة والحشد لصالح اللوائح المعارِضة، وأي موقف مختلفٍ في لحظة الاستحقاق كان خاليًا من القيمة السياسيّة.

إنَّ المجتمع اللبناني يتّجه كليًّا نحو الصراع من أجل البقاء. وهو صراعٌ أكثر جذريّة، ولو كانت آفاقه مسدودة، من دون عقلٍ جماعي يحكمه ويوجّهه. لأنَّ لغريزة البقاء مفعولٌ سحريّ أحيانًا، حيث يتحوّل التغيير السياسي من هدفٍ نسعى من أجله إلى مجرّد واقعٍ يفرض نفسه. ولكن لذلك شروط ذاتية يجب أن تحقّق أولًا، حتى لا يصبح الانفجار الشعبي حربًا بين الطبقات المسحوقة، بدلاً أن يكون حرب تلك الطبقات ضدّ الطبقة المسيطرة والحاكمة.

إنَّ فقر وعجز سكّان هذا البلد لا يعني أنهم ليسوا على أتمّ الاستعداد لتلبية مهام المواجهة من أجل العيش ومن أجل البقاء على قيد الحياة. فربّما تكون الدعوات للتظاهر اليوم عبثية إلى أقصى الحدود، ولن يتفاعل معها سوى أقليّة قادرة على التنقّل في ظلّ الارتفاع الجنوني لأسعار المحروقات وارتفاع تسعيرة النقل العام بشكلٍ كبير، فهي أقليّة لا تزال تمتلك قدرًا من الرفاهية ولا تضطرّ إلى العمل ليلاً ونهارًا لكسب العيش وتوفير الغذاء والسكن والحاجيّات الأساسية. ولكن كما يقول الرفيق الراحل سلامة كيلة، في الكرّاس الثالث من سلسلة كرّاسات ماركسيّة، «طريق الانتفاضة: لماذا تثور الطبقات الشعبية؟»، الصادر في 2007: 

إنَّ الوعي «السياسي» (أي السياسوي، الذي يتعامل مع السياسة كأحداث) لن يستطيع توقّع حدوث انتفاضات، لأنّه لا يرى الواقع، الواقع الاقتصادي الاجتماعي أولًا، حيث هنا تُصنع السياسة، وهنا يبدأ التغيير، وكذلك هنا ينبني نشاط الحزب الماركسي لكي يتحوّل إلى فعل واعٍ كلُّ نشاط جماهيري عفوي ... لكنّ النهب سوف يفضي، في إطار عمليّة تراكميّة، إلى عجز تلك الطبقات على العيش. هنا تصبح الانتفاضة أمرًا «محتومًا»، حيث يتساوى الخوف والموت: الخوف من السلطة والموت جوعًا.

وأنا أضيف إلى هذا الكلام وأعدّل عليه: هنا تصبح الانتفاضة أمرًا «محتومًا»، حيث يتساوى الخوف والموت: الخوف من السلطة ومن الميليشيات التي ترتبط ببنية نظامها وتدافع عنه، والموت جوعًا.


ثورة اجتماعية تلوح في الأفق، وقيادة سياسيّة لم تولد بعد

ربما تكون مسألة شهور، وربّما سنوات معدودة، حتّى ينفجر الشارع اللبناني بأكمله مطلبيًّا، بعد تراكم التحرّكات النقابية، خاصةً تلك المرتبطة بقطاع التربية والتعليم الرسمي الذي صار مهددًا بالزوال. وسيحمل هذا الانفجار الاجتماعي، في العمق، رفضًا جذريًا وقاطعًا للنظام السياسي الطائفي، البرجوازي الأوليغارشي، ولن يعود هناك من معنى في تلك اللحظة بالذات للدعوات إلى التحرّك. فالتحرّكات المطلبيّة ستصير هي اليوميات والمتفرقات وستحتلُّ جميع أخبار الصحف والقنوات والإذاعات. وقبل أن يفوتنا قطار الزمن، علينا أن نعود إلى التفكير بالعامل الأساسي الذي من شأنه تحويل أيّ هبّة شعبية إلى ثورة: تشكيل القيادة السياسية.  أي الحزب السياسي الجماهيري الذي يشكّل حاضنةً شعبية لكلِّ أشكال النضال وينخرط في هيئاته التنظيمية أبناء وبنات هذا المجتمع، والجبهة السياسية القادرة على إنتاج ميزانٍ جديد للقوى ووضع برنامج ثوري انتقالي.

مما لا شك فيه أنّنا بحاجةٍ إلى قراءة نقدية شاملة ومتعمّقة. لكنَّ عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، وهناك مهامٌ طارئة يجب التنبّه لها والبدء بالتنظيم والتعبئة على شتّى الأصعدة للتصدي لها، خارج أسوار البرلمان العفن. فقد تعدّدت مستويات المواجهة بعد الاستحقاق الانتخابي، سواء وافقنا أم لم نوافق. ولم يعد الشارع المطلبيّ المكان الوحيد للفعل السياسي المباشر، على الرغم من أنّه سيكتسب موقعًا جديدًا وزخمًا إضافيًا في المستقبل القريب. والكتلة النيابية الصغيرة، وبرغم الاختلافات الأيديولوجية والسياسية داخلها، يمكنها تحريك جزءٍ من المياه الراكدة. تتطلّب الحاجة اليوم إلى تخطّي الواقع السياسي ودمج المجموعات الثورية غير المهادنة لقوى النظام في تنظيمٍ أوسع وأكثر وصولًا إلى القطاعات النقابيّة والطلابيّة والمناطق والقرى، بالإضافة إلى تخطي حالة المراوحة والتقوقع في أطر مجموعاتيّة تدعو إلى العمل الحزبي لكنّها في الوقت ذاته تخشى أن تتحوّل فعليًّا إلى حزبٍ مناضل، وترى في ذاك التحوّل عبئًا ثقيلًا.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر