بإمكاننا تصوُّر وجهتين إيديولوجيتين أساسيتين داخل الثورة تتشكّلان حول أولوية الاستهداف بين الوجه السياسي للسلطة والآخر المالي المصرفي لها. ويخرج من طرابلس بيان جامع يوازن بين الوجهتين، وقد يشكّل خطوةً نحو التكتّل إذا ما تحوّلت مفاهيمه الأساسية إلى بذورٍ لأوراقٍ اقتصادية وسياسية مفصّلة تنتجها جبهةٌ عريضة من المجموعات.
في المئوية نسأل عن الضرورات الثورية، وتبدو قضايا التنظيم والتكتّل على رأس اللائحة. مع حكومة الاستفزاز والتجاهل الجديدة، تزداد القناعة بأنه لا بدّ للثورة من تحوّلها إلى قوى سياسية فاعلة تؤسّس، في خلافاتها الأيديولوجية، للمشهد السياسي الصحّي الذي نريده بعيداً من المحاصصة أو من حكم الحزب الواحد، تحت سقف القيم الثورية الجامعة كعقدٍ اجتماعي جديد.
تكمن الأهمية السياسية الكبرى لهذا البيان الطرابلسي في أنه يقطع الطريق على مدخلَيْن مُمكنَيْن لاختراق الدفّة الثورية، يحاول كلٌّ منهما أن يخصّ جانبًا واحدًا من التحالف السياسي- المالي الحاكم دون الآخر. وبالمعنى الإيجابي، تمكّننا رؤيته العامة من استيعاب كلّ فروع المواجهة والضغط ضمن سياق واحد. فقد أثبتت التجربة أنّ للثورة ذخراً اجتماعياً واسعاً، ومرونةً تمكّن سرديتها من ربط مساحات مختلفة للمواجهة.
على الثورة ألا تخشى الفعل السياسي، ولا تنخدع بمفاهيمه التقليدية التي كرّسها نظام المحاصصة المُدَوْلَرة. فهو لا يعني أبدًا الانحسار داخل تسابق على التمثيل، بل عليه أن يختصّ في بلورة الأجندات الشعبية والممارسات كاختراقٍ للمشهد الفكري والسياسي، وأن يؤدّي دورًا أساسيًا في التنظيم الميداني الداخلي وشبكات حماية الثوار.
انطلاقًا من هذا التكتّل، سيكون ممكنًا للمجموعات أن تخترق دوائرَها الاجتماعية والجغرافية الضيّقة نحو أفق مجتمعيّ واسع، تستطيع أن تخاطبه بوضوح في كافة المسائل العامة. لا يمكننا أن نتجاهل النجاحات الاستثنائية للمجموعات الثورية منذ 17 تشرين، وقد اخترقت طيفاً واسعاً من المستحيلات. لكنها تبدو اليوم متعثّرةً تحت سقفٍ تفرضه طبيعة العمل المجموعاتي إن لم يتكرّس في شبكة واسعة.
ليس صدفةً أن تخرج هذه الخصوبة السياسية من رحم التجربة الثورية في طرابلس، حيث الضغط الاقتصادي الأكبر والانهيار الأكبر لشرعية الممثّلين السياسيين التقليديين. فالزعامات الأكثر تأثيراً داخل السياق الطرابلسي الشماليّ، كانت قد انغمست في رهانات جيوسياسية وأيديولوجية خسرتْها حتى قبل أن تخسر رهاناتها الاقتصادية.
هذه الهزائم الأيديولوجية تركتْ كتلةً شعبية كبيرة في حالةٍ من الوحشية اكتملت مع انهيار الواقع الاقتصادي. وحشية بمعنى الفراغ والخيبة التامة، قد تكون هي وحدها الجنونية بما يكفي لاختراق الجمود الفكري والسياسي. ولكنها أيضاً، إن انكسرت أمام قوى الثورة المضادة، ستتّجه إلى مزيد من الراديكالية في وجه السلطة أو الأمر الواقع، أو كلّ شي.
في المقابل، يشكّل الوعي القوي بالتهديد الأمني دافعاً قوياً عند الثوريين في طرابلس لتحصين الموقع الثوري وحمايته من عمل الأجهزة الأمنية الكثيف داخل طرابلس والشمال، حيث الخصوصية الأمنية المجحفة. وعي أحسن حتى الآن التعامل مع الاختراق الأمني للثورة، بعيداً من التخوين أو الانبطاح.
كالعادة سيتساءل البعض عن سوء نية أو حسنها: هل يأتي خيرٌ من طرابلس؟ سؤال نثنائيل عندما دعاه فيليبوس إلى اتّباع المسيح: هل يأتي خيرٌ من الناصرة؟ حينها، كانت منطقة الناصرة والجليل رمزًا لأكثر المناطق انسحاقًا اقتصاديًا وسياسيًا تحت استبداد الإمبراطورية ووكلائها المحليّين. وخرج من الجليل ما خرج.