الثورة ليست سلميّة. لم تكن سلميّة حين أطلقت الدولة حرّاسها على الناس. فقد جابهت مكافحة الشغب المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع والعصيّ والرصاص المطّاطي. واعتدت العناصر «غير المنتظمة والعفوية» على الثوار صارخةً الله، نصر الله، والضاحية كلّها، وهو الشعار الأكثر بلاغةً إلى درجة أنّه لا يحتاج إلى قافية شيعة، شيعة، شيعة. ثمّ تغلغلت أحزاب السلطة بصفاقة وسط جلّ الديب وجونيه في إعلان لـ«انضمامهم»، أو بالأحرى استيلائهم، على التظاهرات.
الثورة ليست سلميّة. فقد أعلنت الدولة الحرب ضدّ الحراك الثوري (counterinsurgency)، وسقط للثورة شهداء مقتولون، محروقون، منتحرون: حسين العطّار، علاء أبو فخر، ابراهيم حسين، ابرهيم يونس، ناجي الفليطي، علي الحسين، وغيرهم. كما أنّنا نفقد دوريّا أولئك الذين لا يُضمَّنون عادةً في قائمة الشهداء لاعتبارهم «أضرارًا جانبية»، والأضرار الجانبية لا تتمتّع عادةً بالمواطنة.
وقبل 17 تشرين بكثير، مرّت عقود من السنين والدولة تجوّع الناس، وتُشعِرهم أنّ بضعة ساعات من الكهرباء أو تعبيد طريق ما، هي منّة أو إنجاز عظيم. لكن لا يجوز النقد أو السخرية، فذلك يمسّ من «هيبة الدولة» القمعية وشبه المفلسة والغارقة في المديونية والتبعية. لا بابا، ما منقول هيك.
«هيبة الدولة» هي معركة مغلوطة من ضمن المخاوف التي تَحقُن بها السلطة وشبّيحتها الخطاب العام. والأنكى أنّ بعضنا لا يتبنّى هذه السرديات السلطوية وحسب، بل نفعل ذلك على حساب تجاربنا الخاصّة جرّاء أرخنة مضلّلة تعتبر أنّ الأساليب المكنّاة «سلميّة»، أو متخاذلة، هي التّي تجلب التغيير.
في السياق اللبناني، تبدو هيبة الدولة أبعد من كونها مطلباً للخضوع لشخصيات سياسية معينة فقط، بل هي انعكاس لتجربة النّظام السوري. عندما يقول الثوّار إنّ المنظومتَيْن المخابراتية والعقابية في لبنان هما من «جنود الوصاية وترباية البعثية»، فقولهم ليس مجازًا. بإمكاننا الاستناد إلى تجربة كلّ من اختُطِف من المتظاهرين، علي بصل وسامر مازح وجهاد إبرو الذي لم يُطلق سراحه بعد، لاستشراف أساليب الدولة في الترهيب وارتباطها باستراتيجيات نظام الأسد.
كلّ مطالب الدولة من الثوّار، من تحضُّر وسلمية وتفاوض واحترام هيبتها، تتلخّص في كلمة واحدة، هي «الخضوع». ذلك أنّ الدولة تعوّدت ألا تسمّي الأشياء بمسمّياتها، وتسلّلَ حقلها اللغوي إلى لاوعينا.
لقد كنّت التخاذل والتطبيع بالسِّلم: يبدو أنّ جبران باسيل، مثلاً، رجل يحترم الآخر- ليس الآخر المهاجر أو اللاجئ أو الآتي من طائفة مختلفة، لا، بل الآخر المستعمر الاستيطاني، إسرائيل التي صرّح أنّها تستحقّ الأمان. وعليه، فالأمان هو السقوط لدى متطلّبات القوى المهيمنة والتعايش مع الظلم بأعينٍ معصوبة وفم يتشدّق بالتفاهات الليبيرالية. ستعطينا الدولة الأمان وقت منسدّ بوزنا. أمّا الآن، فهي في حالة حرب ضدّ الثورة.
مأساة اللغة هي قابلية استعمالنا للكلمات تبادليّا، لدى التاريخ، رغم كونها بعيدة كلّ البعد عن الترادف. يتمّ تضليلنا. ننزلق بين مفهومَيْ العنف والانشقاق في زلّات لغويّة غير بريئة. عندما تسرقنا المصارف، نسمّي ذلك فسادًا، وعندما يأخذ الحفاة أحذية بوما من منطقة تهجّر أهاليها لفائدة رأس المال، نسمّيها سرقة. السرقة والعنف ليسا إلا ما تفعله الدولة يوميًّا. أمّا استراتيجيّات الشارع، كلّها دون استثناء، فهي تحرّر.
«هيبة الدولة» إذاً هي الإكراه التعسّفي، هي مطلب التعبُّد خوفاً من العقاب، لا عن قناعة. ولذلك لا يُستغرَب ورود اتهامات كالمسّ بالدولة وتحقير الذات الإلهية في دعاوى ضدّ الناشطين/ات تباعاً وعلى نفس النسق. فالأساس واحد: ما تزعّل البابا، خلّيك «سلمي». خلّيك «متخاذل». وعليه، فإنّ عرش الإله، كما عهد الرئيس، يهتزّ متى نزلنا إلى الشوارع بخطابات لا تدّعي آداب السلوك، وبانشقاق صريح لا نستحي منه. ونحن لا نخاف اهتزاز هذا العهد ولا سقوطه، بل نرغبه. فلا حرج.