وقف إطلاق النار: بين الـ2006 والشرق الأوسط الجديد
يأتي اتفاق وقف الأعمال العدائية الأخير بين لبنان وإسرائيل في سياق عالمي وإقليمي مختلف تمامًا عمّا كانت عليه الأمور في السابق. من جهة، يبدو واضحًا أنّ الولايات المتحدة باتت تعيد تشكيل استراتيجيتها في الشرق الأوسط، نحو تدخل أوسع في شؤون المنطقة. ومن جهة أخرى، تشهد المنطقة صعود إسرائيل كلاعب أكثر عدائية وجرأة، كما تبين من حروبها على أكثر من جبهة، بعد إبرام عدد من اتفاقية التطبيع التي أخرجتها من عزلتها المعتادة عربيًا. في ظل هذه المعادلة، لا يبدو اتفاق وقف إطلاق النار محايدًا، بل هو خطوة أساسية لتقاطع السياستَيْن الأميركية والإسرائيلية، نحو تعميق اختلال ميزان القوى في المنطقة لصالحهما على حساب سيادة لبنان واستقراره.
رغم أنّ الاتفاق الحالي قائم على الهندسة ذاتها للاتفاق الذي أنهى حرب 2006، أي القرار 1701، لكنّ نتائجه قد تعاكس ما آلت إليه الأمور وقتها. في عام 2006، فشل هذا الاتفاق في معالجة الخلل في ميزان القوى في المنطقة. واصلت إسرائيل انتهاكاتها للأجواء اللبنانية وحافظت على سلوكها العدواني، بينما عجز لبنان عن تنفيذ التزاماته بسبب الانقسامات الداخلية السياسية. أمّا اليوم، فيأتي الاتفاق ليعزّز نفوذ إسرائيل، والذي كان واضحًا في الحرب، وخاصة في لحظة تزايد الضعف في الداخل اللبناني، جراء الانهيار الاقتصادي والمؤسّستي. وما يؤكّد هذا المنحى هو دور الولايات المتحدة المباشر في تطبيق الاتفاق، مما يعكس تزايد توافقها مع الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل.
الاستراتيجية الأميركية المتغيّرة في المنطقة
يعكس هذا الاتفاق المسار الأوسع للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط منذ إدارة أوباما قبل أكثر من 15 عامًا. فرغم الكلام عن اختلافات في المقاربات للمنطقة لدى الإدارات المتعاقبة، هناك خط يربط بينها، بدءًا من تراجع أوباما عن التدخل في سوريا، ما فتح الباب أمام انسحاب تدريجي للوجود الأميركي المباشر، مرورًا بتركيز ترامب على هذا الانسحاب وتوقيع اتفاقيات إبراهام والاتجاه نحو تمكين حلفاء أميركا مثل إسرائيل، وصولًا إلى بايدن ودعمه غير المشروط لإسرائيل. بعد مغامرات العراق، عادت الولايات المتحدة إلى سياسة دعم «أنظمتها». والآن، مع عودة إدارة ترامب، أصبحت الاستراتيجية الأميركية واضحة: حماية إسرائيل وحلفائها الرئيسيّين دون التزام القوات أو الموارد الأميركية بحروب طويلة الأمد، بينما تُترك دول مثل لبنان لتتحمّل عبء التنفيذ والتعامل مع عدم الاستقرار الإقليمي. وهذا ما يبدو أنّ السياسة الإسرائيلية التقطته، مع تحوّلها إلى «شرطي» الشرق الأوسط الجديد في حروبها المتتالية والمستمرّة على ما تسمّيه «محور الشرّ».
صفقة أحاديّة الجانب
يشكّل الاتفاق مسودة لآليات حكم المنطقة حسب هذه الرؤية الصاعدة من تقاطع مصالح إسرائيل والولايات المتّحدة:
- من خلال تأمين مطالب إسرائيل طويلة الأمد، وعلى رأسها نزع سلاح حزب الله في الجنوب ومنع الجماعات المسلحة من العمل بالقرب من حدودها. هذه الإجراءات تحيّد التهديدات على عتبة إسرائيل، مع الاعتماد بشكل كبير على الإشراف الأميركي لضمان التنفيذ، ممّا يحدّ من استقلالية لبنان.
- من خلال خلق «سيادات منقوصة» لا تشكّل خطرًا على النظام الجديد وقابلة للخرق بأي لحظة. رغم أن الاتفاق يدّعي تعزيز سيادة لبنان، إلا أنه يفرض شروطًا لا يستطيع لبنان الوفاء بها ويحوّل سيادته الشكلية إلى سيادة فعلية منقوصة. بالإضافة إلى ذلك، دمّرت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة المنازل والأعمال والبنية التحتية، ممّا شرّد العائلات وزاد من الأزمات الإنسانية. هذه الأعباء، إلى جانب الشلل السياسي، تجعل لبنان معتمدًا بشكل متزايد على الجهات الخارجية.
- من خلال خلق حالة من الحرب الدائمة بذريعة الدفاع عن النفس. يحتفظ الطرفان بحق الدفاع عن النفس، لكنّ هذا البند كان تاريخيًا بمثابة ترخيص لإسرائيل لاتخاذ إجراءات أحادية. حتى وقت كتابة هذا المقال، سُجِّل أكثر من 129 انتهاكًا إسرائيليًا لاتفاق وقف إطلاق النار، بما في ذلك تحليق طائرات استطلاع فوق جنوب لبنان وضواحي بيروت الجنوبية ومناطق أخرى. هذه الانتهاكات تؤكد على الإفلات الإسرائيلي من العقاب تحت غطاء الأمن وتُبرز الخلل في كيفية تطبيق الاتفاق.
يعكس الاتفاق استراتيجية لتعزيز هيمنة إسرائيل من خلال عزل حزب الله في الجنوب، وتأمين منطقة عازلة، والاستفادة من الإشراف الأميركي، لتحقق إسرائيل أهدافها الأمنية دون تقديم تنازلات كبيرة. ويزيد التفاهم الأميركي-الإسرائيلي من قوة هذا الاتفاق، مما يضمن دعم المجتمع الدولي لإجراءات إسرائيل مهما كانت مدمِّرة.
هذا الاتفاق خطوة متعمَّدة لترسيخ اختلال التوازنات الإقليمية في القوة. بالنسبة لإسرائيل، يعزّز الاتفاق مكاسبها الاستراتيجية من خلال إضعاف حزب الله وترسيخ هيمنتها في المنطقة. أما بالنسبة للبنان، فهو يمثل تراجعًا إضافيًا نحو الهشاشة (اتفاق مفروض يفاقم ضعفه ويعمّق اعتماده على القوى الخارجية). لا يقتصر هذا الاتفاق على تحقيق الأهداف الأمنية الفورية، بل يعكس أجندة أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. ومن خلال الاستفادة من شراكتها مع الولايات المتحدة، تضمن إسرائيل تفوقها المطلق في المنطقة. أمّا الضحايا، كما هو الحال دائمًا، فهم المدنيون في غزة وفلسطين ولبنان، الذين يستمرون في دفع ثمن نظام مبنيّ على الهيمنة والحرمان.
يمكن لنعيم قاسم، الأمين العام الجديد لحزب الله، ترويج فكرة أنّ الاتفاق انتصار لأنّه دليل على صمود الحزب. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. القيود المفروضة على عمليات حزب الله في جنوب لبنان تضعف موقعه الاستراتيجي، بينما يعتمد تنفيذ الاتفاق على الإشراف الأميركي ممّا يقوّض سيادة لبنان. كما أن قلق الرأي العام اللبناني من قرار حزب الله الأحادي بخوض هذه الحرب يضيف تحديات لمصداقيته الداخلية. لكنّ هذا الكلام لن ينفي واقعة أنّ الشرق الأوسط الجديد بات يتشكّل من خلال تفاصيل هذا الاتفاق.