أوهام الزراعة في لبنان
18
دقيقة

تعمل سبينيس، سلسلة المتاجر الكبرى العاملة في لبنان بأكثر من 17 فرعًا، على افتتاح فرعَيْن جديدَيْن لها، الأول في كسروان في بلدة عشقوت، والثاني على الطريق الرئيسي المتّجه جنوباً خارج خلدة. سبينيس هي أحد أكبر المتاجر الغذائية في البلاد، ومن أغلاها. فهي تعرض منتجات من جميع أنحاء العالم، معلبات من أميركا اللاتينية، ولحوم من آسيا، وخبز من أوروبا، وتوابل من العالم بأكمله. الدخول إلى سبينيس شبيه بالدخول إلى سوق أغذية عالمي. فباستثناء ممرّ الألبان الذي يأتي من السوق المحلي، فإنّ غالبية المنتجات المعروضة مستوردة من الخارج. وقد بدأت شركة سبينيس، في الآونة الأخيرة، عرض قسم الأغذية العضوية الذي يتضمن منتجات عالية الجودة وباهظة الثمن مصدرها لبنان، لمن يرغب في دعم الإنتاج المحلي. تمثّل هذه الممرّات من الغذاء القادم من كافة أنحاء العالم نموذجًا مصغرًا لحالة الأمن الغذائي في لبنان، حيث بات معظم الغذاء المستهلك محليًا يأتي من الخارج، ليتحوّل الإنتاج المحلي إلى «منتج عضوي»، يراد منه الاحتفال بالريف المتخيّل أكثر من توفير الأمن الغذائي.

يشكّل سبينس صورةً مُصغَّرة عن علاقة لبنان بقطاعه الزراعي. 

يعتمد لبنان اليوم على الاستيراد لتأمين حوالي 80٪ من احتياجاته الغذائية، كالطحين والمواد الحيوانية والألبان وغيرها من المواد الأساسية. هذا الاعتماد على الواردات لتلبية الاحتياجات المحلية في خضمّ كارثة مناخية وانهيار مالي وحرب إقليمية، يضع لبنان وسكانه في وضع هش للغاية فيما يتعلق بأمنهم الغذائي وسيادتهم. وفي قلب هذا النظام الهشّ، يكمن القطاع الزراعي الذي احتلّ لفترة طويلة موقعًا مركزيًا في المخيال السياسي والاقتصادي والثقافي لأصحاب المصلحة اللبنانيين. فمنذ تأسيس هذا البلد، دأب الزعماء السياسيون على الترويج للإمكانات الإنتاجية للأراضي الزراعية في لبنان، ليس فقط كوسيلة لتأمين الغذاء، بل كمنتج للتصدير يمكن أن ينافس الدول الزراعية الكبرى. بالإضافة إلى الترويج للإمكانيات الزراعية المحتملة، لطالما دافع الرأسماليون المحليون والأجانب وخبراء التنمية والبيروقراطيون الحكوميون عن الإمكانات السياحية للطبيعة التي تشكل معظم الأراضي الزراعية. ففي العقود التي تلت مباشرة تأسيس دولة لبنان، تعاونت سلطات الانتداب وأصحاب الفنادق في لبنان على تصوير الجبال اللبنانية والمناخ كأحد أفضل مراكز الاصطياف والاسترخاء في المشرق العربي، آملةً استدراج أغنياء الخليج العربي.

ألحقت الحرب الإسرائيلية الأخيرة دمارًا بالغًا بأهمّ ركائز القطاع الزراعي: الأرض والقوى العاملة. وقد أدى نزوح 1.2 مليون شخص داخليًا إلى أزمة إنسانية هائلة، حيث أصبح مئة ألف شخص بحاجة ماسة إلى المنتجات الغذائية الأساسية، وقد فُصلوا عن منازلهم وأعمالهم ومصادر رزقهم، من دون القدرة على تحمل تكلفتها. وضغط النزوح الداخلي على شبكة توزيع الغذاء المثقلة أصلًا، ممّا حدّ من توزيعها في مناطق الحرب وعزل مساحات شاسعة من البلاد عن شبكة توزيع الغذاء الخاصة. كما أدى التأثير المدمّر للحرب على البقاع، حيث توجد غالبية الأراضي الصالحة للزراعة في البلاد، إلى تفريغ المنطقة من قوتها العاملة الأساسية، وهم العمال المهاجرون السوريون الذين يفلحون الأرض ويشكّل عملهم أساس القطاع الزراعي المحلي. أدى نزوح أو عودة نحو 400 ألف لاجئ سوري من لبنان إلى سوريا، إلى جانب الغارات الجوية اليومية على البقاع، إلى شلل القطاع الزراعي المحلي بشكل كبير. وستُخلّف الاستراتيجية الإسرائيلية المتمثلة في تهجير سكان جنوب نهر الليطاني وجعل حياتهم جحيمًا عبر استخدام الفوسفور الأبيض والأسلحة البيولوجية الخطرة، تداعيات بيئية طويلة الأمد على قابلية بقاء المساحات الزراعية والبيئية في جنوب لبنان أيضًا.

المفارقة هي أنّه على مرّ العقود، تمّ إضعاف هذا القطاع، لكنّه بقي يشكّل نقطة ارتكاز الأيديولوجيا اللبنانية. نحبّ «الريف» لما يشكلّه من خيال سياسي، لكنّنا لا نحب الزراعة، كقطاع وممارسات وفئات شعبية. وهذا ليس بجديد. فهشاشة نظامنا الغذائي هي نتيجة اتجاهات تاريخية طويلة الأمد، بالإضافة إلى رؤى تنموية دعمت المصالح الضيقة للنخب الرأسمالية المحلية ومطالب السوق على حساب احتياجات شرائح كبيرة من السكان. 


ستوضح هذه المقالة المراحل التاريخية التي أوصلتنا إلى هنا، وترسم مخطّطًا لكيفية الانتقال إلى نظام غذائي أكثر سيادة وعدالة. فالأزمة الراهنة هي نتاج تراكمات تاريخية مرتبطة بالإرث الاستعماري وبالسياسات النيوليبرالية وبضعف مؤسسات الدولة التي أهملت دعم الزراعة والتنمية الريفية وفضّلت الاستثمار في الزراعة المخصّصة للتصدير على حساب تلبية حاجات المجتمع المحلي. وتَعمّق هذا الاتجاه مع الانهيار الاقتصادي الأخير الذي فتح أبواب الريف اللبناني أمام استغلال رؤوس الأموال الأجنبية الجديدة، خاصة في قطاع السياحة مع افتتاح فنادق بوتيك جديدة، وفي مشاريع سياحة بيئية صغيرة كمصانع نبيذ صغيرة. الريف اللبناني خيال سياسي واجتماعي، وليس قطاعاً اقتصادياً. 

في أصول الأزمة الزراعيّة 

الأزمة الحالية متجذرة في ديناميكيات تاريخية وسياسية عميقة، تبدأ مع التحولات التاريخيّة في ملكية الأراضي. فلقد أدّت إصلاحات التنظيمات العثمانية، وخاصة قانون الأراضي لعام 1858، إلى خصخصة الأراضي المشاع، ونقل الملكية إلى النخب، وتأسيس نظام زراعي استخراجي أصبحت فيه الأرض سلعة بدلاً من كونها مورداً مشتركاً. فتحتْ التنظيمات العثمانية الأبواب أمام تسويق الأراضي في الإمبراطورية. فتوطّدت وتوسّعت العلاقات التجارية التي تربط الأرض والزراعة في لبنان بالسوق العالمية خلال القرن التاسع عشر، مع تحوّل جبل لبنان إلى منطقة رئيسية لإنتاج الحرير توفر المواد الخام للمصانع الأوروبية في فرنسا وبريطانيا. كما فتحت التنظيمات مساحات واسعة من الأقاليم العربية في الإمبراطورية وموانئها ونخب الأعمال فيها للتجارة ورأس المال الأوروبي. فقد أزيلت الحواجز التجارية بين الرأسماليين الأوروبيين ونظرائهم في الإمبراطورية، كما يوضح المؤرخ الماركسي جايروس باناجي، وربطت صفقات جديدة بين بيوت التجار من سالونيك إلى إسطنبول وبيروت والريف العثماني بالصناعات الأوروبية. ​​.Banaji, Jairus. A brief history of commercial capitalism. Haymarket books, 2020
كان ازدهار صناعة الحرير في جبل لبنان بمثابة شهادة على دخول المنطقة في شبكة رأس المال العالمية. لكنّ ربط المصير الاقتصادي لجبل لبنان بالطلب العالمي على الحرير ترك قاعدته الزراعية هشة في أعقاب الصدمات الاقتصادية أو السياسية. وقد أدى انهيار أسعار الحرير في ستينيات القرن التاسع عشر إلى هجرة الآلاف من جبل لبنان بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل في الخارج، مما أدى إلى انتشار الشتات اللبناني في الأميركيّتَيْن بحلول مطلع القرن العشرين، كما وثق المؤرخ أكرم خاطر. 
لم تُغيّر هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وإقامة الانتداب الفرنسي من اعتماد القطاع الزراعي على التصدير، بل ربطته حصريًا بالمصالح الضيقة للرأسماليين الفرنسيين في باريس وحلفائهم في بيروت. وزادت السياسات الاستعمارية الفرنسية من تهميش الفلاحين ورسخت سيطرة النخبة المدينية على الإنتاج الزراعي. وأعطت مشاريع البنية التحتية، مثل ميناء بيروت، المصممة لتسهيل التجارة الإمبريالية، الأولوية لمحاصيل التصدير مثل الحرير والنبيذ على الزراعة المعيشية. وكما توضح المؤرخة إليزابيث ويليامز، فإن الاستثمار الزراعي من قبل سلطات الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي كان قائمًا على مبدأين أضعفا السيادة الغذائية في بلاد الشام: (1) سعي الاستثمارات الزراعية إلى تحقيق أقصى ربح للشركات التي تتخذ من باريس مقرًا لها؛ (2) تركيز الاستثمارات في مناطق مسالمة بالفعل أو داعمة للحكم الاستعماري الفرنسي. Williams, Elizabeth R. States of Cultivation: Imperial Transition and Scientific Agriculture in the Eastern Mediterranean. Stanford University Press, 2023. ربط المبدأ الأول المصائر الزراعية للانتداب بالمصالح التجارية للعاصمة، وأدى المبدأ الثاني إلى تنمية إقليمية غير متكافئة.
لقد استمر النموذج ذاته بعد الاستقلال. تحوّل لبنان، في عهدي الرئيسين بشارة خوري وكميل شمعون، إلى وسيط اقتصادي بارز في التجارة والتمويل العالميين. وكما أوضحت المؤرخة كارولين غيتس، لم ترث النخب صفحة فارغة بعد الجلاء الفرنسي عام 1946، بل كان تطور اقتصاد لبنان خلال العقدين الأولين من استقلاله مضبوطاً من تنظيمه السياسي والاقتصادي خلال أواخر القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين. Gates, Carolyn. The Merchant Republic of Lebanon: Rise of an Open Economy. The Centre for Lebanese Studies and I B Tauris, 1998. تصف غيتس الاقتصاد اللبناني بأنه نتاج عملية تطورية، استجاب من خلالها باستمرار للتحركات في الساحات الدولية والإقليمية والمحلية وتكيّف معها. فمفهوم التوجّه الخارجي أو الانفتاح التجاري الذي تجسّد به الاقتصاد اللبناني، حسب غيتس، لا يُقصَد منه الليبرالية الاقتصادية: فكانت المصالح التي تشكل الاقتصاد السياسي في لبنان مهتمة في المقام الأول بتطوير جهاز ومؤسسات لتسهيل موقف تنافسي في السوق الدولية، وتقديم فرص متزايدة  للتجارة البينية والتمويل والعمليات الخارجية. 
افتقرت الدولة اللبنانية، حتى منتصف القرن العشرين، إلى أي رؤية للأمن الغذائي، وسعت بقيادة نخبها إلى تمهيد الطريق لصفقات تجارية مربحة عززت العلاقات التي تربط أراضيها الزراعية بمصالح رأس المال الأجنبي. لم يصبح القطاع الزراعي الهدف الرئيسي للتمويل والتصميم والتخطيط العام إلا بعد انتخاب فؤاد شهاب ومشاريعه التنموية.

التنمية الزراعيّة في العهد الشهابي

في أيلول 1959، وقّع الرئيس اللبناني المنتخب حديثًا، فؤاد شهاب، اتفاقية مع الأب لويس جوزيف لوبريه. كان لوبريه مؤسسًا ورئيسًا للمعهد الدولي للبحث والتكوين في رؤية التنمية المتناغمة، المعروف باسم IRFED، وهي مؤسسة مقرّها باريس، أُنشِئت لتقديم الدعم الفني والخبرة للدول النامية. جاءت بعثتان لإيرفد إلى لبنان، استمرّتا من عام 1959 إلى عام 1964. ترأس كلاً من البعثتين لوبريه ومساعده الموثوق به ريموند ديلبرات. خلال هاتين المهمتين، أجرت إيرفد سلسلة من الدراسات والمسوحات التي شكلت الأساس لمجموعة من مشاريع التنمية الشاملة في لبنان. 
في صيف عام 1963، أطلقت الدولة اللبنانية «المشروع الأخضر»، وهي خطة وطنية شاملة لإنعاش وتطوير القطاع الزراعي. وكان هذا المشروع أول استثمار عام شامل في القطاع الزراعي في لبنان ما بعد الاستقلال. وقد مثّل المشروع نقلة نوعية في طريقة تعامل الأنظمة السابقة مع الزراعة، والتي كانت تتركها ببساطة لتقلّبات السوق العالمية. 

أُنشئ المشروع الأخضر في البداية كمؤسسة حكومية مستقلة، سعى من خلالها مخطِّطو الدولة وخبراء الزراعة إلى إعادة تأهيل وتوسيع الأراضي الصالحة للزراعة وتحسين الإنتاجية الزراعية ودعم المزارعين. كان الهدف تحويل لبنان إلى قوة زراعية رائدة في السوق العالمية، والحدّ من هجرة السكان من الريف إلى المدينة. وقد اختير مالك بصبوص، رئيس دائرة الغابات والموارد الطبيعية في وزارة الزراعة، لقيادة المشروع الأخضر. تعاون بصبوص بشكل وثيق مع خبير التنمية الريفية في إيرفد، جاك ديركلي، وغيره من المخططين الزراعيين الفرنسيين واللبنانيين في تصميم مهام المشروع الأخضر وبرامجه ومبادراته.
عكس المشروع الأخضر التزام حكومة الشهابية بسد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين المناطق والمجتمعات المحلية من خلال «تنمية اقتصادية إقليمية» تديرها هيئات حكومية في إطار بيروقراطية حديثة التوسع. ويتمثل جزء كبير من دعم المشروع الأخضر للمزارعين في توسيع فرص الحصول على قروض زراعية بأسعار معقولة وتنظيم ندوات تدريبية وتعليمية وتوزيع الجرارات وتقديم الدعم الفني العملي من خبراء الزراعة الحكوميين. من خلال هذه الاستراتيجية، أملت الدولة في ربط سكان الريف بأرضهم، واستثمار جهودهم في الحفاظ عليها، وتثبيط الهجرة إلى المدينة.

مشاكل إعادة التحريج في لبنان

في 13 شباط 1961، ألقى مالك بصبوص محاضرة في نادي الروتاري ببيروت بعنوان «مشاكل إعادة التحريج في لبنان». بدأ بصبوص كلمته متحسّرًا على حال جبال لبنان الخضراء سابقاً والغارقة الآن بكثافة عمرانية خانقة. وأشار إلى كيفية استخدام المصريّين والبابليّين القدماء الخشب اللبناني لبناء مساكنهم الفخمة وتوابيتهم، وندّد بتدمير الغابات الناتج عن الكثافة السكانية والحاجة إلى الأراضي الزراعية، كما هاجم بصبوص رعاة الماعز، واصفًا إياهم بأعداء غابات لبنان.
ثمّ شرح بصبوص لجمهوره الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والديموغرافي الوخيم لفقدان الغابات اللبنانية. فقرى لبنان وريفها الأوسع تعاني من تناقص سكاني سريع ناتج، حسب بصبوص، من فشل الزراعة التقليدية في المناطق الريفية، خاصة مع الجاذبية المتزايدة للمدن العصرية. كما هاجم بصبوص التعليم الحديث في لبنان لكونه متعارضًا ومضرًّا بأي فكرة للعودة إلى الأرض. وخلص إلى أنّ من يعملون في الأرض يفتقرون إلى البنية التحتية المناسبة للحياة الحضرية والموارد اللازمة للازدهار في المدن.
بعد تسليط الضوء على معاناة الريف اللبناني، قدّم بصبوص «المشروع الأخضر» باعتباره الحلّ لهذه المعاناة. فالدولة بحاجة إلى إعادة المزارعين إلى أراضيهم ودعمهم في تحويل الزراعة إلى تجارة مستقرة ماليًا. و«المشروع الأخضر» الذي لا يزال في مرحلة المسودة، من شأنه أن يقلل من تكاليف الزراعة في المناطق الريفية، ويزيد من كفاءة الزراعة من خلال إدخال الآلات، وتوزيع النباتات والبذور بتكاليف منخفضة نسبيًا على المزارعين، وتطوير شبكات ريّ واسعة النطاق لتسهيل الحصول على المياه.
شدّد بصبوص على المهمة المطروحة، مؤكدًا أن إعادة تشجير الريف اللبناني وإعادة إعماره لا يمكن أن يتحققا دون تعبئة الإرادة الوطنية اللبنانية بأكملها. وفي ختام كلمته، قال بصبوص: نؤمن بأن هذا المشروع الأخضر لا ينبغي أن يكون عمل حكومتنا أو نظامنا فحسب، بل عمل جيلنا بأكمله، لأنه الضمان الوحيد للحفاظ على لبنان، من خلال: سكانه الريفيين، وأراضيه، وإنتاجيته الزراعية والغابات، وسياحته، وتوازنه الاقتصادي والعمراني. واختتم عرضه كما يفعل الجنرال عشية المعركة: أمام هذا الخطر المروع الذي يهدد لبنان (انخفاض عدد السكان وإزالة الغابات)، فإن المهمة كبيرة وملحة. يجب أن نتحرك بسرعة، وآمل ألا يتنصل أحد من واجبه. أدرك الموظف الحكومي الذي كُلّف لاحقًا بقيادة التدخل الزراعي الرئيسي للحكومة أن العديد من أمراض لبنان تنبع من أطرافه، فالريف اللبناني بحاجة إلى الإنقاذ، خشية أن يُعرّض تدهوره بقية البلاد للخطر. 

عمل المشروع الأخضر من خلال التواصل مع المزارعين وتقديم مجموعة واسعة من الخدمات والدعم لتنفيذ مخططات إعادة تأهيل أراضيهم. شمل هذا الدعم مساعدة فنية مجانية وقروضًا طويلة الأجل قابلة للسداد وشق طرق زراعية تربط المزارع بالطرق السريعة الرئيسية وبحيرات الري. في البداية، كان من المقرر توفير ميزانية قدرها 27 مليون ليرة لبنانية لـ«المشروع الأخضر»، مع إنفاق متدرج على مدى 10 سنوات. ستغطي هذه الأموال الإدارة ونقل المواد وفتح الطرق والأشغال العامة ودراسات السوق وتوفير النباتات والبذور بتكلفة منخفضة. خصّصت الدولة ميزانية ثانية قدرها 40 مليون ليرة لبنانية، أُنفِقت أيضًا على مدى 10 سنوات، لتغذية صندوق مخصص حصريًا للقروض الممنوحة للمزارعين الذين طلبوا مساعدة «المشروع الأخضر لتطوير» أراضيهم. بالإضافة إلى ما تأملت في تحقيقه، خططت وزارة الغابات والموارد الطبيعية أيضًا لتنفيذ مشاريع في إطار «المشروع الأخضر»، مثل مشاريع إدارة أحواض الصرف ومستجمعات المياه، ومشاريع لأعمال الحفر التي تقوم بها الجرارات، ومشروع قانون للقضاء على رعي الماعز، وبرنامج عمل لإنشاء مشتل غابات. يشير اتّساع وتنوع المشاريع التي تضمنها «المشروع الأخضر» إلى كيفية تحوّله مع مرور الوقت إلى مستودع لجميع الاتجاهات والأوهام التحديثية لخبراء الدولة في لبنان خلال الستينيات. وسرعان ما أصبح المشروع الأخضر بمثابة حل واحد لمجموعة واسعة من المشاكل التي كان البيروقراطيون العاملون لدى الحكومة اللبنانية يأملون في حلها.

المرسومان رقم 13787 و13788

كانت فكرة توزيع المساعدات المالية العامة المباشرة على المزارعين المتعثرين من خلال توسيع فرص إقراضهم، موجودة في الأوساط البيروقراطية اللبنانية منذ التخطيط الأولي للمشروع الأخضر نفسه تقريبًا. كتب عثمان الدنا، وزير التخطيط العام اللبناني من عام 1961 إلى عام 1964، رسالة إلى وزارة الزراعة يُؤيد فيها مسودة مشروعهم المقترح للائتمان الزراعي الخاص. وأشار الدنا أيضًا إلى أن خبراء التخطيط العام قد درسوا المسألة دراسة مستفيضة، مُقرّين بالمزايا التي سيجلبها للزراعة والإنتاج وممارسات الزراعة الصغيرة في لبنان. لكن وقع خلاف حول كيفية توزيع المساعدات. جادل الدنا بأنّ أيّ توزيع للائتمان يجب أن يسبقه إنشاء شبكة من التعاونيات الائتمانية التي ستشرف على مراقبة القروض وعملية الإقراض. وهو نهج أيّده أيضًا صندوق التنمية الزراعية الدولية (IRFED). وأعرب عن اعتقاده بأن غياب مثل هذه الهيئة الرقابية سيؤدي إلى فشل أي برنامج ائتمان زراعي. كما أكد الدنا على ضرورة إشراف إدارة التدريب الفني في التخطيط العام على جميع الجوانب الفنية وتنفيذ المشروع الزراعي الممول. واشترط أن تكون أي موافقة على الائتمان مشروطةً بقبول الدعم الفني من هذه الإدارة.
من خلال الدعوة إلى التعاونيات الائتمانية الصغيرة كشرط للمساعدات، كشف الدنا وIRFED عن عدم ثقتهما في صغار المزارعين أنفسهم. رفض الوزير فكرة أن تكون شركة التسليف الزراعي والصناعي والعقاري (BCAIF) هي مصدر الائتمان لصغار المزارعين لأنّ ذلك من شأنه أن يكبّد BCAIF الكثير من المخاطر، بحجة أن: المزارع اللبناني العادي هو مستأجر وليس مالكًا، وحتى المالك الصغير لا يمتلك المعرفة والانضباط اللازمين للحصول على مثل هذه القروض الكبيرة لمصلحته الخاصة. أراد الدنا أن يكون BCAIF وخطوط الائتمان الخاصة به وإجراءاته متاحة فقط لكبار ملاك الأراضي والمزارعين المخضرمين المزودين بمعرفة تجارية عالية. يمكن لصغار المزارعين الحصول على الأموال من التعاونيات الأصغر، التي يمولها BCAIF. تم تصميم خطة الدنا كوسيلة لمراقبة تدفق الائتمان الزراعي بدقة وتقليل المخاطر قدر الإمكان. عكس موقف وزير التخطيط العام اعتقادًا شائعًا بين البيروقراطيين الشهابيين: يجب إنقاذ المواطنين الريفيين، لكن لا يمكن الوثوق بهم لإنقاذ أنفسهم. كما أظهر التزام IRFED بنهج التنمية المتمحور حول الفرد، حيث تم استهداف المزارعين بشكل فردي كجزء من عملية إعادة تأهيلهم. 
في 9 أيلول 1963، أصدرت الحكومة المرسومين رقم 13787 و13788، اللذيْن وضعا المعايير والإجراءات التي تمّ من خلالها توفير 40 مليون ليرة لبنانية من الائتمان الزراعي للمزارعين، والتي حدّدت أن الأموال في عهدة BCAIF وتدار بالشراكة مع المشروع الأخضر. وفقاً للمادة 2 من المرسوم رقم 13787، يُنشئ BCAIF فرعاً خاصاً ضمن هيكليته، يُسمى «فرع استصلاح الأراضي»، وتكون مهامه مراقبة المعاملات الائتمانية للمزارعين الذين استصلحوا أراضيهم من خلال مشروع استصلاح الأراضي واسترداد هذه القروض مع الفوائد، وملاحقة المتأخرين عن سداد الأقساط المستحقة، وتنظيم بيانات شهرية وفصلية وسنوية تتضمن طبيعة الأعمال المنفذة وتفاصيلها، وجميع المعلومات الأخرى ذات الصلة.
حُدِّدت إجراءات تقديم طلب الحصول على قرض في المرسوم رقم 13788. وتُمنح القروض بناءً على قرار اللجنة الإدارية للمكتب التنفيذي لمشروع «المخطط الأخضر». ويُصبح المزارعون الراغبون في استصلاح أراضيهم من خلال مشروع «المخطط الأخضر» طرفًا في اتفاقية يوقعها ممثل عن المكتب التنفيذي، وممثل عن BCAIF، والمقترض. ويُطلب من طالب القرض تقديم طلب يتضمن طبيعة وتكاليف الأعمال المراد تنفيذها، بناءً على دراسة هذه الأعمال التي يقدمها المكتب التنفيذي للمشروع الأخضر. وأخيرًا، يُلزم طالب القرض بإيداع مبلغ مالي يعادل نسبة مئوية معينة من إجمالي قيمة تكاليف أعمال استصلاح الأراضي.

رغم ذلك، جاءت نتائج المشروع عكسية تماماً لما سعى إليه مخطّطوه. ذلك أنّ التغيّرات المادية التي جلبها «المشروع الأخضر» أدّت إلى دفع المزيد من المزارعين والمواطنين الريفيين إلى التخلي عن أراضيهم باتجاه المدينة. 

  • أولًا، 
    كان نظام الائتمان الزراعي الذي وُضع موضع التنفيذ غير متاح لمن لم يتمكنوا من دفع السعر المضمون المرتفع أو مواكبة الأقساط الشهرية. نتيجة لذلك، ذهبت معظم القروض إلى المزارعين الأثرياء والملاك الأراضي الكبار، أو النخب الريفية ذات الصلات الوثيقة بنظام شهاب. أولئك الذين لم يتمكنوا من تمويل أراضيهم اضطروا إلى بيعها إلى ملاك الأراضي الأكبر حجماً، مما أدى إلى توحيد مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية القابلة للزراعة في أيدي عدد قليل من النخب الريفية. لقد ساعد الدعم الفني والميكانيكي الذي قدمه المشروع على زيادة إنتاج بعض المنتجات، إلا أن توافر الجرارات والتقنيات الأخرى جعل العديد من مسؤوليات الزراعة غير ضرورية؛ حيث قام كبار ملاك الأراضي بتسريح العديد من المزارعين الصغار لخفض التكاليف.
  • ثانيًا، 
    رغم أنّ الإنتاج الزراعي استفاد من سياسة دعم حكومية جديدة، إلا أن قرار تحديد المحاصيل التي تستحق الدعم اعتمد بشكل كبير على نفوذ تجار المواد الغذائية الذين حافظوا على احتكارهم للواردات والصادرات. وقد استقت وزارة الزراعة توجيهاتها بشأن المنتجات التي ينبغي دعمها من التجار، ومن دراسات السوق التي أجراها المشروع الأخضر حول تنافسية المنتجات اللبنانية في الأسواق الإقليمية والعالمية. وقد خلق هذا الوضع تبعية بين الدولة والمزارع والتاجر، حيث احتاجت الدولة إلى التدخل باستمرار للحفاظ على استدامة بعض المنتجات بتكلفة منخفضة، بما يسمح للمزارعين بالبقاء ويحقق لمصدّري المنتجات اللبنانية أرباحًا. وبالتالي، لم تُوجَّه الزراعة المحلية نحو الحفاظ على الأمن الغذائي الوطني، وهو ما كان يشكّل هدفاً رئيسياً من أهداف «المشروع الأخضر».


بدأ الزخم الحكومي وراء المشروع الأخضر بالتراجع في سبعينيات القرن الماضي. كتب موريس الجميل، وزير التخطيط العام في الحكومة الشهابية الأخيرة، في الشهر الأخير من حكمها، مقدمة وثيقة أعدّها عدد من رؤساء أقسام وزارته بعنوان «وثيقة تمهيدية لوضع سياسة زراعية في لبنان». بدأ الجميل الوثيقة بتعداد أسباب فشل «المشروع الأخضر»، أولًا من الاعتراف بأن مساحة لبنان محدودة، مما سيمنعه من المنافسة في الزراعة التقليدية في الأسواق العالمية. أما العامل الثاني المؤدي إلى انهيار الزراعة اللبنانية، فهو «غزو المدينة للريف». لم يكن الجميل قلقًا بشأن هجرة الريف بقدر ما كان يخشى التوسع الحضري المستمر لمدن وبلدات لبنان في جبال البلاد وسهولها. أوضح الجميل أن غزو المدينة للريف، ظاهرة تؤدي إلى الاختفاء التدريجي لأهمّ حدائقنا، مع وجود صعوبة كبيرة بما يكفي لضمان استبدالها. أمّا غزو الجبال، أو ما يسمّى إعادة تطوير التربة، والتي كان من المفترض أن تكون، من حيث المبدأ، مسؤولية المشروع الأخضر، فإن هذه الخطة، للأسف، لم تقدّم سوى عمل رمزي صغير بدلاً من حركة لإعادة تأهيل الأراضي على نطاق واسع. حذّر موريس الجميّل من أنه في غضون 50 إلى 100 عام سيصبح لبنان «مدينة-لبنان»، مكتظًا بالسكان، وبالتالي باتت ضروريًا نقل القوى العاملة الزراعية تدريجيًا إلى قطاعات أخرى.
أظهرت هذه الرؤية المثالية للريف كيف أنّ التحضّر السريع كان مصحوبًا بأجندات أيديولوجية متناقضة ظاهريًا: من جهة، الحفاظ على نموذج ريفي رعوي غير متطور، مثالي لتوسيع السياحة، ومن جهة أخرى، تطوير قطاع زراعي قوي من شأنه أن يردع هجرة الريف. في نهاية المطاف، فشلت هذه الرؤية للتنمية في الأطراف في تمكين سكان الريف، وبدلًاً من ذلك، أنشأت صناعاتٍ زراعية استخراجية أحادية المحصول خاضعة لتقلبات الأسواق الإقليمية والعالمية. رغم أن الدولة استثمرت بكثافة في تطوير القطاع الزراعي خلال العهد الشهابي، خلافًا للأنظمة السابقة، إلا أن الاستثمارات العامة لم تُسهم إلا في تعزيز القطاع الزراعي المُوجّه للتصدير.

النيوليبراليّة، والمنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة، والدولة الغائبة

على الرغم من تراجع دعم الدولة «للمشروع الأخضر» في أوائل سبعينيات القرن الماضي، ما زال نهجه وإطاره التصديري مهيمناً على الوجهة السياسية الزراعية للدولة. ورغم أن هذا النموذج يفتقر إلى التمويل العام الذي كان متاحاً في الستينيات،  برز داعمون جدُد لهذا الاتجاه، وهم رجال الأعمال من القطاع الخاص والمنظمات الدولية الكبرى، والتي تحاكي في اتجاهها النيوليبرالي التوجهات المسيطرة في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. ورغم أن القطاع الخاص والمنظمات المانحة تُجادل بأن عملها يهدف إلى دعم المزارعين والقطاع الزراعي، إلا أن عملهم يُقوّض سيادتنا الغذائية وأمننا، مما يزيد من اعتمادنا على الوصول إلى السوق العالمية والصرف الأجنبي.

منذ ثمانينيات القرن العشرين، أصبح لبنان مندمجاً بشكل متزايد في النظام الغذائي العالمي وشركاته الخاصة. يعطي هذا النموذج الأولوية لاقتصادات التصدير الزراعي، والاعتماد على الواردات، والمدخلات الزراعية التي يقودها المانحون. وكما يزعم رياشي ومارتينيلو (2023)، فإن دمج لبنان في أنظمة الغذاء العالمية يعكس أنماطًا أوسع من التراكم الرأسمالي في الجنوب العالمي. وقد أدى تحرير التجارة، وسياسات التكيف الهيكلي، وخصخصة الأراضي والموارد إلى تقويض السيادة الغذائية وتفاقم الهشاشة. Roland Riachi and Giuliano Martiniello, “Manufactured Regional Crises: The Middle East and North Africa under Global Food Regimes”, Journal of Agrarian Change 23, no. 4 (2023) pp. 792–810.

وقد نفذت شركات متعددة الجنسيات وشركاؤها في لبنان بالفعل الزراعة التعاقدية في العديد من الأراضي الزراعية في البقاع، حيث تستأجر الأراضي الصالحة لزراعة المنتجات بثمن بخس مستغلةً ضعف تطبيق الضوابط والعمالة الرخيصة من أجل بيع المنتجات إلى الخارج. وهذا واضح بشكل خاص في الأنشطة الأخيرة التي قامت بها الحكومة ووزارة الزراعة لاستضافة العديد من المعارض وورش العمل الزراعية التعاقدية في البلاد من أجل تعريف المزارعين المحليين بشركات الأغذية الزراعية وتشجيع الشراكة معها.

تبلور هذا النشاط عبر ترسيخ العلاقة بين الزراعة اللبنانية ورأس المال العالمي. ينطبق هذا المثل على الشركات الأوروبية التي تستثمر في زراعة الكروم في البقاع، ومؤسسة رينيه معوّض التي تعاقدت مع شركات أجنبية برعاية السفارة الهولندية    لتحويل مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في الشمال والجنوب إلى حقول أفوكادو. وتستغل هذه الاستراتيجية أيضًا أي موارد زراعية مستنفدة لدينا لتلبية احتياجات السوق العالمية. تُظهِر الزراعة التعاقدية علاقة استعمارية جديدة بين دول الشمال والجنوب العالميين، حيث يمكن لدول الجنوب تقديم الأراضي والتربة الرخيصة لزراعة المنتجات الغذائية التي يمكن للشمال بيعها في أسواقها وتقويض مزارعيها المحليين. ومن أحدث الأمثلة على ذلك إنتاج زيت الزيتون في تونس المُخصص لإسبانيا، وتمويل هولندا للمنتجات في غزة قبل حرب 7 أكتوبر والإبادة التي تلت. ويعمل البنك الدولي حاليًا على الموافقة على قرض بقيمة 200 مليون دولار أميركي مُوجّه لممارسات زراعية تعاقدية مماثلة في لبنان، مُتنكّرًا في صورة «شريان حياة لشريحة كبيرة من فقراء لبنان». والحقيقة هي أنه في حال الموافقة على القرض وتوزيع أمواله على المزارعين، فسيُثقل ذلك كاهل سكان مهمشين ومعوزين ماديًا يواجهون أزمات مالية وبيئية حادة بأعباء باهظة.

لقد أدى انهيار الليرة اللبنانية منذ عام 2019 وسياسات الهندسة المالية التي ينتهجها البنك المركزي إلى تدمير الأنظمة الغذائية في لبنان. ويواجه المزارعون ارتفاع تكاليف المدخلات المستوردة، وانهيار فرص الحصول على الائتمان، وانخفاض قيمة منتجاتهم. وتؤدي أنظمة المدخلات التي يتحكم بها المانحون إلى تفاقم هذه الأزمات المالية التي تدفع إلى استيراد البذور والأسمدة، مما يحبس المزارعين في دورات غير مستدامة.

نحو نظام غذائيّ آمن وسياديّ يركّز على المزارع

فتحت الأزمة الاقتصادية الحالية في لبنان أبواب الريف اللبناني أمام استغلال رؤوس الأموال الأجنبية الجديدة، خاصةً من المغتربين اللاجئين في الخليج العربي الذين تركوا البلاد في آخر خمس سنوات. ففي حين دمر الانهيار الاقتصادي اللبناني في السنوات القليلة الماضية الشركات والصناعات الزراعية، ازدهر قطاع السياحة مع افتتاح فنادق بوتيك جديدة، ومشاريع سياحية بيئية، ومصانع نبيذ صغيرة، ومشاريع زراعية في المناطق الريفية والأرياف. فأولئك المغتربون وشركاؤهم يرون في لبنان حالياً فرصة للاستثمار والاستفادة من الاغتراب عبر دعم مشاريع زراعية وسياحية مبنية على تسويق نوستالجيا التعلق في لبنان، مناخه، وموارده الطبيعية والتاريخية.

خذوا على سبيل المثال مقهى Em Sherif Deli، وهو فرع من مطعم Em Sherif الأصلي، وهو مطعم راقٍ في قلب بيروت يقدم خدماته لنخبة ومشاهير البلاد والمنطقة. ووفقًا لموقعهم على الإنترنت، فإن المقهى هو ملاذ طوال اليوم للاستمتاع بالإبداعات المستوحاة من التقاليد والنكهات العائلية مع احتضان الذوق والروح المعاصرة وتقديم أطباق تكريمًا للنسيج الغني للطقوس اللبنانية. يتناسب Em Sherif بشكل جيد مع «الابتكارات» الطهوية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين التي تستحضر صورًا مثالية للماضي في لحظة حنينية مصطنعة. وبما أن الاستهلاك أصبح جزءًا لا يتجزأ من صنع الهوية في عصرنا الحالي من الرأسمالية الاستهلاكية المفرطة، فإن وصف المنتج بأنه تاريخي وأصيل وتقليدي لا يخدم إلا في إبراز غموضه وقيمته، مما يجعل استهلاكه أكثر جاذبية وإغراءً.
يبدو أن المتاجر والاستثمارات كهذه تسعى إلى الجمع بين أفضل ما في العالمين، احتفاءً بالريف اللبناني ومنتجاته الزراعية فقط بقدر ما يمكن بيع هذه المنتجات نفسها للزبائن ذوي الدخل المرتفع في الخارج. كما أن ظهور العديد من الفنادق البوتيكية مثل بيت دوما وبيت الجبل وبيت عميق وغيرها يحتفي أيضًا بالريف اللبناني ومخزنه وأراضيه الزراعية بسعر 200 دولار لليلة الواحدة. ولجعل الأمور أسوأ، تصر الحكومة اللبنانية الحالية على أن هذا النوع من التنمية الاقتصادية هو شريان الحياة للاقتصاد اللبناني الذي يعاني منذ فترة طويلة. كل ما نسمعه من الرئيس والوزراء وأصحاب الفنادق والمطاعم هو حول مدى أهمية أن يكون هناك موسم صيفي جيد، وأن الفنادق ممتلئة والمقاهي ليس بها مقاعد فارغة.
رغم أن العديد من هذه المشاريع الجديدة تُغلف رسائلها ومنتجاتها بلغة «العودة إلى الجذور» وخطابات صديقة للبيئة، إلا أنها تعطي مثالاً آخر على شعار راسخ في تاريخ لبنان: استغلال الريف كفيلٌ دائمًا بإنقاذ البلاد. وقد أكدت كل حكومة لبنانية منذ الاستقلال على أهمية وجود صناعة زراعية فاعلة وريف سليم لمستقبل البلاد. وتنبع الفكرة الوطنية اللبنانية، حرفيًا، من الجبل، كما أوضحت المؤرخة كارول حكيم. Hakim, Carol. The Origins of the Lebanese National Idea: 1840–1920. University of California Press, 2013. وليس من قبيل الصدفة أن يعتقد فؤاد شهاب ولويس جوزيف لوبريه أيضًا أن الريف كفيلٌ بإنقاذ لبنان. 

التخلّص من الريف المتخيّل كمدخل للأمن الغذائي

ليس لبنان المكان الوحيد الذي يزدهر فيه تعلق خاص بالريف أو تُنسب فيه منظومة من المشاعر إلى المشهد الطبيعي، كما يصفها الباحث الأدبي الماركسي ريموند ويليامز. Williams, Raymond. The Country and the City. Oxford University Press, 1975. إنها ظاهرة عالمية حديثة، نتيجة ثانوية لتغلغل الرأسمالية في الريف، وهيمنة نموذج الدولة القومية، والنزعة الرجعية المهيمنة التي تُرجع إخفاقات عالمنا الرأسمالي إلى انحطاط الحياة الحضرية. الحياة في الريف مليئة بالسلام والبراءة والفضيلة البسيطة، بينما المدينة هي موقع للصخب والروح العالمية والطموح. 
يكتب ويليامز بأن هذه الثنائية التي تُقارن بين حياة الريف وحياة المدينة، تمتد إلى العصور القديمة. ويُذكرنا بأنه على الرغم من أن خيالنا عن الحياة الريفية يبدو عالقًا في صورة مثالية وريفية وهادئة، إلا أن الريف كان دائمًا في حالة تغير وحركة دائمة. كان الريف موقعًا لاستغلال كبير، حيث لم تكن العلاقات الاجتماعية معزولة، متجذرة في فضائل وأفكار متواضعة، بل في الريع والفائدة، والمكانة والسلطة؛ نظام أوسع. 
تُظهر هذه الأطروحة كيف تحوّل الريف اللبناني مع مرور الزمن، لكنّ بناءه الشعوري بقي ثابتًا. 
صمّم مهندسو الطرق في معهد إيرفد طرقًا سريعة تخترق الريف، مُتيحةً للركاب أروع المناظر الطبيعية أو المواقع التاريخية. كان اهتمام ليبريه بالاقتصاد الريفي، وازدراؤه لرأسمالية السوق، وشكوكه في المخططات الإمبريالية الأميركية، مجرد انعكاس لمثاليته في اقتصاد «طبيعي» أو «أخلاقي» اعتمد عليه الكثيرون، متناقض مع قسوة الرأسمالية الجديدة المُتوحّشة. استند ازدراء شهاب لنخب بيروت وجهوده لصياغة مواطنين لبنانيين نموذجيين في الريف إلى فكرة مرتبطة بالبراءة: براءة ريفية للقصائد الرعوية والرعوية الجديدة والتأملية كما كتب ويليامز ذات مرة. وفي كل مرحلة، كان الريف الجواب الثابت لمعضلات أهل المدينة. 
كما يصعب علينا ألا نكون رومانسيين تجاه بيروت، فمن الصعب أيضاً ألا نكون رومانسيين تجاه الريف اللبناني: أشجار الكروم، وبساتين الزيتون، والتلال الخضراء المليئة بالمنازل الحجرية ذات الأسقف المبلطة باللون البرتقالي. إنه المكان الذي كنا نقضي فيه صيفنا في صغرنا، حيث علّمنا أجدادنا عن الطبيعة واصطحبونا في جولات مشي. إنه بعيد كل البعد عن المدينة، وسياسييها الفاسدين وميليشياتهم العنيفة. لكنّ الحنين إلى الماضي وقليلاً من الإبداع الريادي في البلاد لا يكفيان لدعم رؤية سياسية قادرة على تحدي الوضع الراهن في لبنان. صورتنا عن الريف مُفسّرة بشكل كارثي، عاجزة عن الصمود أمام أي نفحة من التدقيق التاريخي. تاريخ الريف اللبناني هو تاريخ استغلال وعنف وتهجير. علينا أن نتعلم من هذا التاريخ، لا أن نسعى إلى تعميق الاستغلال، إن أردنا الحفاظ على صمودنا في وجه قوى العنف والجشع والهيمنة.
يحتاج لبنان إلى تحويل استراتيجيته الزراعية بعيداً عن الاعتماد على أسواق التصدير، وإعطاء الأولوية بدلاً من ذلك للسيادة الغذائية من خلال تعزيز الإنتاج المحلي للاستهلاك المحلي. وتلعب الدولة دوراً حاسماً في هذا التحوّل ــ من خلال تنسيق المساعدات الخارجية، والاستثمار في الممارسات الزراعية البيئية، وتوسيع نطاق الوصول العادل إلى الأراضي، وتنشيط التعاونيات كمؤسسات جماعية بدلاً من كونها شركات مدفوعة بالربح. وينبغي الاعتراف بالمزارعين ليس فقط باعتبارهم منتجين، بل أيضاً باعتبارهم فاعلين سياسيين تشكّل وجهات نظرهم محور تشكيل الحكم. وبدون المشاركة الحقيقية من جانبهم، فإن جهود الإصلاح قد تظل مجزّأة وغير فعالة. يتطلب النظام الغذائي في لبنان استراتيجية قصيرة وطويلة الأجل: تدابير عملية قصيرة الأجل إلى جانب إصلاحات هيكلية طموحة. يمكن للدولة أن تتخذ خطوات فورية لتمكين المنتجين، وإزالة مركزية شبكات الغذاء، وتحقيق الاستقرار في الأسواق المحلية. ولكنّ تحقيق السيادة الغذائية الحقيقية سوف يعتمد في نهاية المطاف على معالجة التفاوتات الأعمق المرتبطة بملكية الأراضي، والسياسة الاقتصادية، والتمثيل السياسي. ومن ثم ينبغي متابعة التدخلات قصيرة الأمد مع التركيز على التحول النظامي طويل الأمد.
لكن قبل هذا كله، علينا إنقاذ الريف من خياله في الأيديولوجيا اللبنانية، لتحريره من صورة باتت تمنعنا من رؤية الواقع. 

أوهام الزراعة في لبنان

اخترنا لك

«تنظيم تجارة البذور»: قانون جديد يهدّد المزارعين
07-12-2025
تقرير
«تنظيم تجارة البذور»: قانون جديد يهدّد المزارعين
«طالعين عالجنوب»: لإحياء الأرض والزراعة والفنّ
02-11-2025
تقرير
«طالعين عالجنوب»: لإحياء الأرض والزراعة والفنّ
راشيا تحتفل بيوم الدبس 
11-10-2025
تقرير
راشيا تحتفل بيوم الدبس 
اللائحة الحمراء: لبنان المهدّد بالانقراض
27-09-2025
تقرير
اللائحة الحمراء: لبنان المهدّد بالانقراض
ماء الزهر: ذهب مغدوشة الأبيض
05-04-2025
تقرير
ماء الزهر: ذهب مغدوشة الأبيض
تأثير الفوسفور والمعادن الثقيلة على محاصيل الجنوب
08-03-2025
حديث
تأثير الفوسفور والمعادن الثقيلة على محاصيل الجنوب
الشهابيّة والجمهوريّة: إنقاذ، استعصاء، استئناف
دراسة

الشهابيّة والجمهوريّة: إنقاذ، استعصاء، استئناف

فادي بردويل
الجنوبيّون يعودون إلى زيتونهم
كزدورة مع أنطوان 
11-02-2024
تقرير
كزدورة مع أنطوان 
خبايا غابات عكّار وتغيّراتها
قمح بلدي للكل: الاكتفاء الذاتي وكسر الاحتكار
03-06-2023
تقرير
قمح بلدي للكل: الاكتفاء الذاتي وكسر الاحتكار
جبنالكم «لبن العصفور»: حليب القمبز الطبيعي
12-04-2023
تقرير
جبنالكم «لبن العصفور»: حليب القمبز الطبيعي
أسطورة الهجرة من لبنان
25-03-2023
فكرة
أسطورة الهجرة من لبنان
مليون نوع ونوع: قصّة مزرعة
28-09-2021
تقرير
مليون نوع ونوع: قصّة مزرعة
 حركة حبق: السيادة الغذائيّة أوّلاَ
19-02-2020
تقرير
 حركة حبق: السيادة الغذائيّة أوّلاَ

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
أوهام الزراعة في لبنان
دراسة

أوهام الزراعة في لبنان

زياد ياغي
شهيدان في غارتَين إسرائيليّتَين متتاليتَين على ياطر
هجّروه من المخيّم لجأ إلى الكنيسة
21-12-2025
تقرير
هجّروه من المخيّم لجأ إلى الكنيسة
قيل هذا الأسبوع 14 - 20 كانون الأوّل 2025
رفع اسم علاء عبد الفتاح عن قوائم منع السفر
هكذا تتنقّل كاميرات الشوارع بعد الأسد
20-12-2025
تقرير
هكذا تتنقّل كاميرات الشوارع بعد الأسد