في صغري، كنتُ أتخيّل دوماً لو كانت لي القدرة على أن أكون شيئاً آخر، لاخترت أن أكون جبل.
الجبلُ عملاق، شامخ لا ينحني لأحد أو شيء، قويّ لا حدود للأوزان التي يستطيع تحمّلها. سأكون جبلاً.
لست أدري إن كان شُبّه لي لاحقا أني صرت جبلًا. فرحت أتصرّف وفقًا لذلك. إذ وجدتني مع الوقت أتظاهر بالصلابة وأتحمّل بثبات ما يثقل عليّ. أحمل أوزاني وأوزان غيري.
لست أدري كم من المرّات سقطت في سرّي، وكنت بعد كل سقطة ألملم حطامي، وأتظاهر بالقوة وأنهض من جديد.
حين أخبرتني الأخصّائية النفسية بأنني أعاني من الاكتئاب، وبأنني في مرحلة متقدّمة منه، لم أتفاجأ. حرصت لاحقًا، على نقل الخبر بسخرية لصديقاتي: لدي اكتئاب، تفاجأت! كنت أعلم منذ زمنٍ بأنّني مكتئبة، ولكنني كنت أظنّ الاكتئاب ردّة فعل طبيعية على كلّ ما يحصل حولنا. حالة ظرفية محكومة بالأحداث التي لا يمكننا السيطرة عليها. لم أكن أعلم أن الاكتئاب مرض يقتضي علاجه. كنت أظنّ دوماً أن الوقت وتبدّل الظروف كفيلان بإزاحته، لم أكن أدري أن مرور الوقت لا يزيله بل يضاعفه ويغذيه.
في حالتك لن تكفي جلسات العلاج وحدها، تقول الأخصائية النفسية، لا بدّ من زيارة طبيب نفسي ليصفَ لك مضاداً للاكتئاب. اجتاحني القلق والخوف من فكرة الدواء. حاولت إقناعها بعدم ضرورة ذلك، وبأنني لا أريد أن أعتمد لبقيّة حياتي على مضادّات الاكتئاب.
لدى زيارة الطبيب النفسي، كرّر لي ما أدلت به الأخصائية النفسية مضيفًا بأن جلسات العلاج النفسي لا تكفي وحدها لإنهاء الاكتئاب الذي أعاني منه. لا يوجد سببٌ واحد للاكتئاب، يشرح الطبيب، هناك ملايين الأسباب والصدمات منذ طفولتك وحتى يومك هذا، كلّها تتراكم وتتسبّب بخللٍ بيولوجي يؤدي إلى الاكتئاب. الأمر ليس بيدك ولا بيد أحد. الاكتئاب مرض كأي مرض آخر ولا علاج لك سوى الدواء.
قيل لي مؤخراً: سنتان من الاكتئاب كتير، لا أحد يستطيع تحمّل ذلك. لم أعرف كيف أردّ ولكني شعرتُ يومَها بالاختناق.
حاولتُ لاحقاً البحث عن أسباب اكتئابي، فبدأت بالأحداث الأخيرة: جائحة كورونا، انفجار مرفأ بيروت، أحداث عين الرمانة- الشياح... كلّ منها يقتضي سنواتٍ لهضمه واستيعابه. هذا ولم نتناول بعد الفواجع الحاصلة في البلدان المجاورة والبعيدة. كل ما يحصل يؤثر علينا فكيف لا نتأثر؟
وماذا عن مشاكلنا وخيباتنا الخاصة فوق هذا وذاك؟ ماذا عن الخيانات التي تعرّضنا ونتعرّض لها في حياتنا؟ ماذا عن كمية وأشكال العنف الذي نتعرّض له يومياً؟ هل حقاً «سنتان من الاكتئاب كتير»؟
وماذا عن مجموعة «الصدمات» التي تلازمنا منذ الطفولة؟ هذه الصدمات التي في كل مرة نظنّ أننا تجاوزناها، تعود إلينا بشكل مختلف لتنغّص علينا حياتنا. هل فعلاً «سنتان من الاكتئاب كتير»؟
إن كان المقرَّبون يشعرونَك أن حِمل اكتئابكَ ثقيلٌ عليهم، وغير قادرين على تفهمك ودعمك. فماذا يكون شعوركَ أنت، المكتئب؟ ما مدى الثقل الذي تحمله.
لماذا يُحمَّل المكتئب ذنب ما لا ذنب له فيه. الاكتئاب ليس خياراً نتّخذه بمحض إرادتنا. لا أحد يحبّ أو يريد أن يكون مكتئباً. لا متعةَ ولا شاعرية في الاكتئاب.
كانت حالتي تزداد سوءاً يوما بعد يوم. تعاظمت في السنتين الأخيرتين، ولكنّني طيلة هذا الوقت احتفظت باكتئابي لنفسي. كان مشكلتي وحدي.
لم أرغم أحداً على مشاركة ثقله. لم أطلب من أحدٍ ملازمتنا، اكتئابي وأنا. لم أطلب شيئاً حتى من أقرب المقرّبين، وبرغم ذلك كان يُطلَب مني أشياء كثيرة. كنت أتعرّض للضغط لكي أكون «بخير». كنت أتعرّض للانتقاد وتُكال لي التهم، ومرّات كان مزاجي موضوع مزاح ونكات تُلقى عليّ من دون حساب.
دائماً ما أفكّر أنّ ما يصبّرنا على هذه الحياة هو وجود أشخاص نحبّهم، وبأننا على الرغم من كل البشاعة حولنا، نحن محظوظون ببعضنا بعضاً. ولكن حين يصبح اكتئابنا عبئاً على حياة من نحبّهم، فما الذي يتبقى لنا ليصبّرنا.
أنظر إلى المرآة. أحدّق جيداً، هذه التي في المرآة لا تشبهني. لا خدع بصريّة هنا. إنها أنا من دون بريق عيون، من دون شغف. كائن حيّ وميت في الوقت نفسه. مجرّد جثة متحركة، ستتعفّن عاجلاً أم آجلا.
تقول لي صديقتي ألا أقسو على نفسي. أجيبها أني لا أفعل، وبأن العالم هو من يقسو علي.
تسألني المعالجة النفسية: هل تفكرين بالموت؟
أصمت. أفكّر في سرّي أنّ الموت بحدّ ذاته لا يستدعي التفكير أصلاً. أفكّر دائما بالحياة، هي التي ترهقني وتوجعني. كل شيء فيها ثقيل.
ثمّ من قال إن التفكير بالموت يستدعي القلق أو الخوف؟ وهل التفكير بالحياة يبعث على الطمأنينة؟
لا إرهاق في الموت. لا ألم. الموت رحمة ومعضلتنا الحقيقية هي الحياة.
لنقل إنني في أحيان كثيرة شعرت بأنني أجبر نفسي على الحياة، بأنني أعطيها كل يوم فرصة جديدة. أفكّر دائماً طالما أنها حياتي، أنا، فلماذا لا يمكنني أن أرفض عيشها؟ لم أستطع يوما التحلي بالقدرة والقوة على تحقيق هذا الرفض. ولكنني أشعر أن هذا العالم يضيق بي. وأن هـذه الحياة تطبق على أنفاسي.
تشاركني صديقاتي تجاربهن مع مرض الاكتئاب، وكيف أن الدواء غيّر حياتهن. تسألني صديقتي في معرضِ الإقناع: إذا معك سكّري ما بتاخدي دوا؟
لا أعلم سبب إصراري على رفض الدواء. لربما هو منطق أنه «لا يجب أن ننهار أو نطلب المساعدة». ثم أفكّر أن حياتي لن تكون أسوأ مما هي عليه الآن، وأني لم أعد قادرة على الاحتمال، ولقد انهرت حرفيًا وأصبحت كلّ الأشياء فوق طاقتي. فلأعترف، في النهاية أنا لست جبلاً. لم أكن يوماً كذلك.
يقول لي الطبيب النفسي إنني سأبدأ بالتحسّن خلال شهر، وبأنني سأكون بحال أفضل بعد شهرين. تقول لي صديقتي التي صادف أنها تتناول الدواء ذاته: انطري شوي، وصدقيني رح تنبسطي.
وأنا لا أريد شيئا اليوم سوى أن أصدّق الطبيب وأن أصدّق صديقتي. أنا لا أريد سوى أن أكون بخير.