حساسية مفرطة حيال كل شيء. وجعٌ لا مُتناهٍ. مشاعر هشّة. ألمٌ مستمرّ أسفل البطن. تسارُع في دقّات القلب. فقدان شهيّة. خمول. أرق. قلق. خوف. غضب. حزن. صداع. توتّر. نزق. تعب. ضعف في التركيز. مشاكل تنفُّس. أما الـ«بانيك أتاك»، فحدِّث ولا حرج.
هذه بعضٌ من عوارضي في الفترة الأخيرة. ولكنني سأعتبر أنّ الأمر لا علاقة له بما يحصل من حولي. سأتظاهر أنني بخير وأن هذه المشاعر، جميعها، ما هي إلا من جرّاء اقتراب موعد دورتي الشهرية.
وما دام السبب قد أُحيلَ إلى دورتي الشهريّة، يمكنني الآن أن أرخي العنان لنفسي. يمكنني أن أسجن نفسي في الغرفة وأتمدّد على السرير لأيام متتالية، لا لأنني لا أريد الخروج من المنزل، ولا لأنني خائفة، ولا لأنني لم أعد قادرةً على مواجهة أي شيء، ولا لأنني تعبت، ولا لأنني لم أعد قادرةً على الوقوف، بل لأن دورتي الشهرية اقتربت ويمكنني أن أتذرّعَ بها.
يمكنني أن أبكيَ على كل الأشياء التي حصلت وتحصل ولا تتوقف عن الحصول، وأن أوهم نفسي بأنّ الأمر مجرّد تغييرات هرمونيّة. يمكنني أن أبكي دفعةً واحدة على كل ما يضايقني، لا بأس إن بكيت بصوت مرتفع، ولا بأس إن سال مخاطي.
سأقنع نفسي أن ليس هناك مشاكل، وسأتظاهر أنني بخير، أننا بخير، وأن كل شيء حولنا بخير.
سنكرّر هذا كلّ شهر. يكفي أن نتظاهر طيلةَ 20 يوماً بأننا على ما يرام، ولنا في الأيام العشرة الأخيرة أن نلومَ تقلُّب مستويات الاستروجين والبروجسترون، فنبكي بحرية، ونكتئب من دون ذنب، ونغضب، وننفعل، ونحرّر أحاسيسنا ومشاعرنا.
ثمّ أقول لنفسي: أنتِ تتحولين إلى شخصٍ مملّ. عشرةُ أيام للكآبة تكفي، لا؟
حين يتعلّق الأمر بمشاعري، أتلعثم غالباً، وأصمت. لطالما عانيت من مشاكل في البوح. حين أتألّمُ، أهرب. حين أنزعجُ، أهرب. حين أحزنُ، أهرب. وحين أتعبُ، أهرب. الهرب كان دوماً ملاذي الوحيد.
قالت لي صديقتي يوماً إنّ العلاقات بين البشر مربوطةٌ بحبلٍ لا مرئيّ، كلّما تصارحنا حافظ الحبلُ على انسيابه، وكلّما كتمنا وضمرنا تكتّلت فيه العقدُ والتفّ الحبلُ على نفسه وعلينا.
حاولتُ مراراً ألّا أكتمَ وأُراكم كتماني، وأن أبوحَ بكلّ ما يضايقني، لكنّ البوحَ ليس بهذه السهولة لمن هو مثلي. وفي الحالتين، تكون الخسارةُ نصيبي الدائم. فحين لا يعودُ الهربُ مُتاحاً تنفلتُ أفكاري بنبضٍ غير محسوب، فيخالُ السامعُ حماسي غضباً عليه. وهو غضبٌ من كلّ شيء. ومن نفسي.
يحدثُ أن تتوالى الفواجع من حولنا. ومهما نجونا نحن نخسر مع كلّ فاجعة شيئاً ما. ولقد خسرتُ. خسرتُ أشياء كثيرة. خسرتُ طاقتي على تحمّل الناس والأشياء والأحاديث الطويلة والأصوات العالية والأماكن المزدحمة. أنهكتُ ببساطة. وحاولت التعبير، ولكنني فشلت عن التعبير برويّة.
كيف نعبّر عن أنفسنا من دون انفعال؟ من دون غضب؟ من دون سخرية أو تهكّم؟ من دون بكاء؟
كيف لجراحنا أن تتكلم بهدوء عن الأشياء التافهة وغير التافهة؟
كيف نحافظ على علاقاتنا من دون أن ننفجر ببعضنا؟ كيف لعلاقاتنا ألا تتأثر؟
هذا النظام يقتلنا ببطء. يقتل طاقاتنا على التحمّل. يفكك علاقاتِنا. يطحنها طحناً.
كيف لنا أن نستمرّ وسط هذا الجنون؟ كيف نترك ألمنا جانباً ونتواصل حين يكون هذا الألم جزءاً منا؟
كيف نحافظ على هدوئنا ونحن نعيش معارك يومية على الجبهات كافة؟
كيف نتصرّف بعقلانية ونحن بالكاد نعيش؟
وكيف، في تفاصيل حياتنا الشخصية، نعبّر «برويّة» عمّا يؤلمنا؟
أصمت، كي لا أقول أشياء لا يجدر بي قولها، أو كي لا يُساء فهمي. أصمت كي لا أتسبب في إيلام أشخاصٍ أحبهم، وأًصمت حين أرى أن لا جدوى من الكلام. أتحمل، ثم أبتعد تدريجياً. أبدو كشخصٍ غير مبالٍ، كشخصٍ مزاجيّ، لا يهمّ. فإن تكلمت أو صمتُّ، النتيجة ذاتها، سيُساء فهمي.
حين أخرجُ من المنزل، أتعب. حين أكون وسط مجموعة كبيرة، أتعب. حين يعاتبُني أحدٌ لعدم تواصلي، أتعب. كلّ شيء يُتعبُني.
حاولتُ مراراً أن أخرج. أن أختلط. أن أتواصل. أقسمُ أنني حاولت. وفي كل مرة كنت أعود مثقلةً أكثرَ من ذي قبل.
تفقدُ الأشياءُ، في الخارج، معانيها تدريجياً. ليس ثمة ما أتطلّع إليه. أدورُ في حلقات مفرغة من التفاهة. كلّ الأشياء تبدو متشابهة. أتساءل كيفَ أصبحنا هنا. كيف مرّ كل هذا الوقت. كيف تحمّلنا كل ذلك. هل نجَونا فعلاً؟
في محطات عدّة، ظننتُ أنّ الحياة سترأف بنا وتتوقّف، ولو لوهلة، كي يتسنّى لنا استيعاب ما يحصل. كي نضمّد جراحَنا على الأقلّ. ولكنّ الحياة استمرّت، واستمرّينا معها، وكأنّ شيئاً لم يحدث. مؤلمة هذه القدرة على الاستمرار والتظاهر أننا بخير.
تنهرُني نفسي مجدداً: الأمور بخير، تذكري أنها مجرد «هرمونات»، أيام معدودة وستنقضي، جرّبي الآمر، عشرة أيام تكفيك، لا؟
عشرةُ أيام ثم أكملُ التظاهر بأنني بخير، بأننا جميعاً بخير، وبأن كل شيء على ما يرام.