استثناء
لم يحدث شيءٌ كهذا من قبل. ليس في لبنان، ليس في العالم…
هذا ليس بحثًا عن «استثنائية لبنانية»، كالتي يبحث عنها البعض لتبرير وجود هذا الكيان. فهناك أزمات مالية ومآسٍ إنسانية وسياسات قاتلة في العالم… الاستثناء ليس هنا، هذا قد يكون طبيعياً.
الاستثناء هو في هذا الاستخفاف، إن لم يكن الازدراء، للحياة في هذه البلاد، لفكرة الحياة. فكان من الممكن تفادي هذه المآسي، أو على الأقل، التخفيف من وطأتها من خلال أبسط الإجراءات، لو كان هناك أدنى الإحساس عند حفنة اللصوص الحاكمة تجاه الناس، تجاه مآسيهم. هذا الاستخفاف هو ما لم يحدث من قبل.
احتقار الحياة، هذا هو شعار «النظام».
وقاحة
هو ليس احتقارًا لمجرّد أنّ هناك فقر وقتل وحرمان. هو احتقار لكون كل هذا الإجرام بات وقحًا، ليس لها أي «تبرير» أو حتى أعذار. فلم نعد ضحايا خطابات سياسية، كالمقاومة أو السيادة إو حماية حقوق الطوائف… اليوم، الشحع بات مفضوحًا، واستغلال آخر نقطة دم علنية.
احتقار الحياة في هذه الوقاحة، في وقاحة جردون المصرف المركزي وهو يتزمر أن توزيع الخسائر الذي حصل كان مجحفًا لمصرف لبنان. هو في نوّاب عكار الذين لا يصلحون للعمل في بنغو، وهم يحاضرون بالحصانات والدستور. هو في هذا الفاسد، المرشح ليترأس وزارة «إنقاذية»، الذي يتبكبك لعدم قدرته على الذهاب إلى مطعم، هو في هذا المسؤول الحقير وموكبه الذي يضيف طابورًا إضافيًا إلى الطوابير العديدة التي باتت تحاصر حياة العالم، هو في هذا الموظف في الأمن العام الذي يجلب النفط لكي لا يمثل أمام قاضٍ…
الوقاحة هو أن تغلق أبوابها المستشفيات لانقطاع المازوت، ويموت الناس حرقًا جراء انفجار صهريج من البنزين المهرّب.
نظام
مع كل خطوة نحو القعر، يذوب النظام، ليعود إلى مكوّناته الأوليّة، لطبيعته كتجمّع من اللصوص وقطّاع الطرق والقتلة. حتّى الغطاء الطائفي لهذه السلطة سقط، مهما حاول ممثّلوها إعادة إشعال التوترات الأهلية. فاليوم، نُحكم من مجموعة رجال، يفتقدون لأي عمق اجتماعي أو كثافة اجتماعية، ويتمسّكون بزمام الأمور من خلال عنف وتلاعب مؤسّستي. هذا لا يعني عدم وجود انقسامات أهلية أو تعقيدات إجتماعية، ولكنّها لم تعد تحمي النظام.
أمام هذا الواقع، لم يبقَ للنظام إلّا الخيار الأمني، إمّا من خلال افتعال توترات أهلية لإعادة بناء رصيده الطائفي أو الاختباء وراء خيار قمعي لتأديب الخروج المعمّم عن التراتبية الإجتماعية التي نشهدها منذ فترة.
سقط النظام، وبدأ العنف.
موت
لكن في هذا الانهيار أيضًا، بداية حساسية جماعية، يلتقي من حولها من يكمن في هذه البلاد. هناك «موت مشترك»، بات يشكّل بوادرَ «مشترك» ما، افتقدت إليه الجماعات المتناحرة لمدى عقود. فلأول مرة في تاريخ هذا البلد، هناك مشترك، ليس قابلاً للاستغلال الطائفي، مشترك قائم على مادية الموت معًا، على طوابير تخترق الحدود المناطقية، على آلام تتشارك فيها ضحايا هذه الأرض.
في هذا «الموت المشترك» تاريخ متأخّر لثورة حاولت أن تقضي على النظام قبل أوانه. وفي وجه احتقار الحياة، هناك هذا «الموت المشترك» كمنطلق لسياسة أخرى، سياسة تحاول الأحزاب محاصرتها من خلال إعاشاتها وعنفها.
غضب
ربّما لم يعد لدينا إلّا الغضب، غضب عاجز يتنامى مع كل خطوة نحو القعر. فكما سأل رئيس مجلس اللصوص، نبيه برّي، أما آن لهذا الليل أن ينجلي؟ ربّما ليس بمقدورنا اليوم جلاء هذا الليل من خلال زجّ صاحب هذا السؤال في سجن، كما يجب. لكنّ للعمر حقه. وهذا ربّما ما يتمسّك به أكثرية من يقيم هنا. الأمل بأن يأتي هذا اليوم، حيث ستتحوّل مقابرهم إلى مزابل، نرمي فيها قذارة احتقارهم للحياة.