مع الثورة، عمّ الفيسبوك شعور جماعي بالسخرية من المذاهب والطوائف. وفي لحظة، تحوّلت السخرية إلى سرد وحكايات. كلٌّ يتمرّن على البوح بطريقته ويعاود في تذكُّره تجاوُز الخوف الذي ساكن ألسنتنا، لبنانيّين مغتربين ومواطنين مقيمين، في تحدُّثنا عن جماعاتنا الأولى ومذاهبها وطرق عيشها، وبالطبع طوائفنا التي تحاكي عيشنا منذ الولادة.
بدت الثورة في تخطّيها العام إلى الشخصي، وكأنّها تخاطب أيضاً الذاكرة الشفهية لكلٍّ منّا، وأحوال التربية البيتيّة وما يرافقها من هوية ننسخ عليها هويّات لاحقة.
تربّيتُ في بيت سنّي، يتقلّد فيه الوالد سلطات كثيرة، غير أنّه يتفلّت منها، حين تعود إليه طبيعته القروية الأولى. فيتخفّف من سنّيته بالعودة الى صلافةٍ ورقّةٍ تمتزجان ببعضهما بعضاً، مأخوذة من تربيته في قرية نائية لم تصلها الكهرباء حتّى بدايات الستينات.
في بيتنا الذي توسّطت فيه كلمة الله الجدار المالس، وكذلك آية الكرسي وسورة الفلق، كان القرآن ساكن البيت وشاغله، صوتاً وصورةً ولوحات. وإذ يخلو بيتنا تقريباً من أي لوحة فنية أو صور عائلية، كان صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وصوت الشيخ عبد الحميد كشك، يمرّان في منافذ البيت وأركانه كالهواء. وقد لحقهما في ما بعد صوتاً وصورةً الشيخ العرعور. وكان صوت أبي الأقوى في حضوره، مستمِدّاً منهم قوّته وصلابته ولغته وهو ينادينا للخروج معه إلى المسجد عندما يبدأ مؤذِّن الحيّ بالتكبير للصلاة.
تعلّمتُ الهرب باكراً من قواعد البيت، ومن سنّيته المفرطة التي تحوّلت إلى سلفية سوداء تعتاش على خطب ماضويّة وأفكار يتبنّاها أبي وفق مزاجه ووفق خطب الشيوخ الذين يتردّد إليهم في مساجد المدينة. وزادت حدّتها بعد اغتيال الحريري الذي تسبّب في خلق ما عرف بـ«المظلومية السنّية».
كانت هذه السنّية المنزلية تختلط فيها أفكار ابن تيمية وابن الجوزي. الكتب التي حازت اهتمام أبي وتراصّت فيما بعد مع كتب لجويس منصور عن أكل الكسّ والتهامه، وروايات إيفان كليما المترجمة، ومارغريت دوراس وقصص إباحية لم يكن أحد يعيرها اهتماماً، بعدما بدأتُ أزرعها كالأفخاخ واحدةً تلو الأخرى وسط موروث سنّي أصولي. ولأنّ الكتب الدينية تُنسى وتتحوّل إلى تماثيل مرصوصة، صارت فيما بعد المصرف الأوليّ الذي أجمع فيه أموالي التي أتقاضاها من شغلي عند عبد الرحمن الحلاب، وفي الكتابة في صحيفة التمدُّن والأديب الطرابلسيتين.
كان الدين، لباساً وعاداتٍ، حاضراً في المنزل وخارجه، لكنّه ما لبث أن صار عبئاً في نظرتي إلى نفسي ورغباتي. صرتُ ما يشبه الشبح الذي يختفي من البيت، ويتردّد شيئاً فشيئاً إلى عوالم لم ترُق أهلي يوماً. فتعلّمتُ الخروج إلى شوارع المدينة الأقلّ فجاجةً في سنّيتها، والتي مارس ناسها وسطيّتهم السنّية.
فصرت ما أنا عليه، متخفِّفاً من سنّيتي وسنّية أهلي ومدينتي، بعدما صارت عوالمي الأضيق تعتمد على الشلل والصداقات الخارجة لتوّها من انتماءات الأهل إلى نواديها العلمانية وأفكارها المتحرّرة. وحين صرت في فرنسا، وراحت نزعتي إلى الانفصال عن هذا التاريخ وهذا المذهب تحرُّراً من سلطة أبوية، لم يبقَ من تلك السنّية إلا أصواتها الهادئة والعذبة. أصوات كتواشيح الشيخ توفيق المنجد التي كانت تأتيني من مسجّلة قديمة متربّعة فوق أحد الرفوف في مطبخنا، أو تلاوة الشيخ صلاح الدين كبارة التي ما زلتُ أحياناً، حين لا أقوى على النوم، أخفض صوتها في أذني عبر سمّاعات الهاتف، فأغرق مثل طفل بدا أنّه لم يتخلّص تماماً من سنّيته الأولى.