تتحوّل بكركي اليوم إلى محجّة بعض القوى السياسيّة التي تصطف خلف طروحاتها لمعالجة الأزمة اللبنانيّة، من الحياد الإيجابي الذي حوّله سيد الصرح إلى عقيدة ذهب بعيداً في التوسّع بمضامينها، إلى المؤتمر الدولي المخصص لتكريس هذا الحياد. ولعلّ خطاب نصر الله الأخير الذي رفع فيه السقف في مواجهة هذه الطروحات على قاعدة «ما حدا يمزح معنا»، ساهمت في تأجيج الإستقطاب حول مواقف البطريرك، وإعطائها طابعاً مذهبياً يتجاوز النقاش السياسي الهادئ. وفي المقابل، تعامل بعض المتخوفين من هذه التطورات بتوتّر مشابه، من خلال التركيز على خطرها من ناحية إعادة البلاد إلى انقسامات 8 و14 آذار، بدل التركيز على الثغرات الأكبر في طرح البطريرك، والمتعلّقة بابتعادها عن التعامل مع جذور الأزمة والحلول المطلوبة في هذه المرحلة.
المشكلة الأولى هي أنّ الأزمة اللبنانيّة مدوَّلة بالفعل، من الناحيتين الماليّة والاقتصاديّة على الأقل، أي من الجانب الأكثر حساسيّة لجهة المخاطر التي تهدد مستقبل المجتمع والدولة في لبنان.
رهان البلاد الوحيد بات يتعلّق اليوم بمصير مفاوضاتها مع صندوق النقد، وقدرتها على الدخول في برنامج معه، خصوصاً بعدما تغاضت السلطة عن العمل على أي رهانات بديلة قادرة على التعامل مع الجوانب البنيويّة من الأزمة. وشروط الصندوق معروفة، وهي نفسها الشروط التي تلقّفت معظمَها المبادرة الفرنسيّة ومن بعدها سائر دول الإتحاد الأوروبي. وأسباب تعثّر لبنان في دخول هذا المسار باتت معروفة أيضاً، وخصوصاً من جهة إستماتة الفئة الأكثر نفوذاً في النظامين السياسي والمالي في الدفاع عن مصالحها.
أهم ما في الأمر أن البطريركيّة المارونيّة لم تكن بعيدة عن كل هذه الأحداث. فالبطريرك كان ذات يوم في طليعة المدافعين عن رياض سلامة، إلى حد وضع الحاكم كخط أحمر يُمنع المساس به على قاعدة الدفاع عن الموقع الماروني. لا بل من المعروف أيضاً أن البطريرك اتخذ مواقف حادّة في وجه أي محاولة لتحديد الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي، والتعامل معها وفق قاعدة تحميل أصحاب المصارف الجزء الأكبر من الخسارة. وقد أتت كل هذه المواقف تحت شعارات الدفاع عن الإقتصاد اللبناني الحر، ورفض وضع اليد على القطاع المصرفي. وللأمانة، لم تكن سائر المرجعيات الروحيّة بعيدة عن هذه الأجواء أيضاً، وتحديداً دار الفتوى التي شاركت البطريركيّة ريبتها إزاء أي محاولة للمس بالرساميل المصرفيّة، تحت عناوين ذات طابع مذهبي مشابهة.
باختصار، ليست المسألة مسألة تدويل فعلاً، بل كيفيّة التعامل مع الخارج. وفي مقابل رفض البطريركيّة للشروط والإملاءات التي تناقض مصالح أصحاب النفوذ في النظامين المالي والسياسي، يختار البطريرك مدّ اليد الخارج لكن لفتح مسارات سياسية تتعلّق بدور البلاد في معادلات السياسة الخارجيّة. لكنّ هذه المقاربة تقع اليوم في فخ تبسيط الأزمة التي يمر بها لبنان بشكل فاقع، وتحديداً من خلال ربط الإنهيار الحاصل بالمعادلات السياسيّة الدوليّة حصراً، دون الإلتفات إلى الجانب الأهم من المسألة، والمتعلّق ببنية النموذج الإقتصادي الذي جرى العمل عليه طوال سنوات ما بعد الحرب الأهليّة، والذي استنفد في النهاية قدرته على الإستمرار.
على أي حال، تكمن الثغرة الأهم في مقاربة البطريرك في تفاؤلها المفرط بأولويات المجتمع الدولي. فتجربة اللبنانيين الأخيرة مع ماكرون دلّت بوضوح على أنّ الخارج قد يهمّه التدخّل في مكان ما لحماية مصالحه من انهيار البلاد الشامل، أو لخلق مصالح استثماريّة جديدة. لكنّ هذا الخارج لن يحمل أولويّة الإنقلاب على التوازنات الداخليّة إذا كان ذلك سيرتّب عليه معارك هو بغنى عنها. ولهذا السبب، لم تخرج المبادرة الفرنسيّة عن نطاق جمع أقطاب السياسة اللبنانيين في إطار تبادل مصالح واضح المعالم: الإنقاذ المالي مقابل مصالح وأولويات فرنسيّة استثماريّة واضحة.
لكل هذه الأسباب، لم تخرج مبادرة بكركي عن نطاق المراهنة على الوهم، ولا يمكن أن يصحح البطريرك هذه المسألة قبل مراجعة مواقفه السابقة من الأزمة، وتحديداً تلك المتعلّقة بقراءته لأسبابها، وبمسارات الحل المطلوبة.