تعليق بكركي
محمد محسن

بكركي: لفهم السياق أوّلاً

3 آذار 2021

انطلاقًا من الضرورة الدائمة لمقاربة الواقع من زاوية وعي الأفراد المشكّلين له، نحاول فهم مشهد الأيام الماضية بالإضاءة على دوافع البطريركية المارونية، والإشارة إلى أبعاد طرحها، وباستنطاق وعي الشريحة الاجتماعية- السياسية الملتفّة حول خطابها، كشرطٍ أساسي من شروط معالجة هذا الخطاب وأزماته الجوهريّة.



واهمٌ من يظنّ أنّ مواجهة الفرز السياسي الحادّ، والذي يؤلّف المشهد اللبناني اليوم، يكون برفع شعار العلمنة. تنطلق هذه الدعوة، على الرغم من صوابيّتها مطلقًا، من افتراض أنّ الصورة الملتقطة في بكركي، والتي ضمّت الراعي وبعض جماهير الأحزاب المسيحيّة اليمينيّة، هي محض نسخة طبق الأصل عن صورة البابا غريغوري في العصور الوسطى ومن حوله جماهير الكنيسة يؤيدونه على افتتاح عهد إطباق سيطرة الإكليروس على مفاصل المجتمع. وهو افتراض أقلّ ما يمكن وصفه بالإختزاليّة وضعف القراءة للسياقين المحلّي والإقليمي، ولطبيعة العلاقات الضابطة لإيقاع اللعبة السياسيّة والمحدّدة لمراكز القوّة في النظام. هذا مع التأكيد على مدى أهميّة الإلتفات الى مثل هذه المقاربات في مباحث علميّة أخرى.



فمشروع علمنة الدولة يقع ضمن حدود «الحياد الإيجابي»، بما هو انعتاق الخيارات السياسيّة اللبنانيّة عن سطوة الإرادة الپاسادرانية. وهذا ما أومأ إليه البطريرك في خطابه حول الحياد، مع تشديدنا على مأزوميّة هذا الطرح وارتهان خياراته لمعادلة المحور المقابل، والذي تجد فيه القوى السياسيّة الداعمة له خشبة نجاة تطيل من عمر هذا النظام الرثّ وتلملم أشلاءه. أو على الأقل ما تبقى من أشلائه، بما يضمن مواقعهم السياسية والماديّة، وهي ما يمكننا وصفها بالمحاولة الانقلابية على ما أنتجت 17 تشرين من مشاريع، وإن كانت غير واضحة المعالم، تمثّل النقيض لهذا النظام.

بإيجاز، يشتركُ معارضو حزب الله العلمانيّون مع البطريرك، والأحزاب المسيحية من خلفه، بعجزهم عن التعايش مع مشروع حزب الله السياسي وهيمنته وتغلغله داخل أجهزة الدولة. لكنّ «الراعي» إذ يتكلّم اليوم، فهو يتكلّم بعد أن لمس عجز المؤسسات عن التوليف والترقيع، أو ايجاد المخارج باستخدام الادوات القديمة لترميم الشرخ السياسي الحاصل ونقله إلى الأقنية «الديمقراطيّة» المعتادة. حتى أضحت كل ازمة تعصف في البلاد، صغيرةً كانت أم كبيرة، تُرَدّ للأزمة السياسيّة الحالية والتناقض الحاد المطبق على المجال العام، وإلى تعذر إيجاد الحلول فيه. وبالتالي «يضيع الشنكاش» ويتم تعليق القضايا انتظاراً لتسوية جديدة، أو ديباجة جديدة تترجم الآتي من الأزمات بصياغة تعيد إنتاج النظام. والأمثلة كثيرة على القضايا المعلّقة، بدءًا بجريمة إنفجار المرفأ ووصولاً لعمليّة اغتيال النّاشط السياسي المعارض لقمان سليم، وما زال الدفتر مفتوحا.

يعترف البطريرك، بطرحه التدويل، أنّ الأزمة أزمة نظام. وأنّ النظام قد تلف واختنق، وتصدّأ وعطب، ومؤسسات إنتاج السلطة فيه معطّلة، إن لم نقل مصادرة، ولم تعد قادرة على إنتاج العلاقات نفسها. وترى بكركي، ومعها «القوات اللبنانية» ومثيلاتها من أركان هذا النظام، وإن كانت رؤيتها خاطئة، أن هنالك إمكانية لإعادة إنتاج «نظام معيّن» أو «صيغة جديدة» إذا ما تمّ إخراجه من الخندق الإيراني. وليبقَ في الخندق مَن يريد البقاء، شرط أن لا يزجّها فيه معه، فهي ليست مستعدّة لتحمّل عواقب خياراتٍ لا ناقة لها بها ولا جمل.

من هنا وجب علينا أن نفهم أنّ الانقسام والتَمَترُس في البلاد أضحيا حادّين جداً، والتناقضات آخذة في الاتساع والاصطدام، بشكلٍ يهدد حتّى هوية الكيان الذي نعرفه. وهو ما يرجعنا إلى ما ذكره بابا الفاتيكان حول الخطر الذي يحدّق بالكيان اللبناني ككل. فلا بدّ، إذًا، أن ندرك جيدا أنّه لم يعد باستطاعة قوى النظام استيلاد الحلّ من داخل مؤسساته التي أقرّينا بتعطّلها سابقًا؛ وهكذا أمكن لنا فهم إصرار البطريرك على التدويل.

أخيرًا، يمكننا القول إنّ الطرح البطريركي- القواتي هو طرح فئة من النظام القديم تظنّ أنّ بمقدورها إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء لناحية إعادة تمويل ذات النظام من ذات المصادر. وهنا أمكن للنقد أن يطال بنية السلطة اليمينية المرتبطة بالنظام مثلًا، أو علاقة الكنيسة بذلك ربطًا بتاريخها، أو منطلقات الطرح «الميثاقية» الطائفية. ولكن تلزمنا اليوم قراءة كاملة وهادئة للمشهد السياسي العام عبر الإمساك بوعي الشريحة الواقفة على الضفة المقابلة لجماهير المحور الممانع. وبالتالي، على المعارضة أن تعي جيدا متى تبتعد عن وجه العاصفة، وتكتفي بمراقبتها، لاقتناص الفرصة السانحة لها بوصفها نقيض النظام، كلّ النظام، دون أن تنخرط في معركة خاسرة، أكبر منها، لن تخدم فيها إلاّ أحد الطرفين السلطويّين.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نتنياهو يهدّد المحكمة الجنائية وكل من يتعاون معها
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
21-11-2024
أخبار
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
25 شهيداً في عدوان يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2024
3,583 شهيداً، 15,244 مصاباً
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة