في معرض رفضه لحكومة محايدين، طرح حسن نصر الله في أحد خطاباته الأخيرة استحالة الحياد للحيوانات اللبنانية الناطقة، بحسب تعبيره، باعتبار أنّ الطفل اللبناني يكوِّن، منذ نعومة أظافره، توجّهاً سياسياً معيّناً.
لعلّه من البديهي نقض فكرة نصر الله حول الحياد، لكن فليكن، دعونا نناقش البديهيات. فأن يكون الفرد محايداً في الصراع الداخلي الدائر بين الأحزاب اللبنانية ليس أمراً عصيّاً على الفهم. فالحياد عن السياسة الداخلية لدى من خرج على المنظومة الحاكمة وحيَّد نفسه عنها ليس حياداً عن السياسة، بل هو فعل سياسي بحدّ ذاته.
إذا ما أردنا أن نأخذ هذا المصطلح أبعد قليلاً، علينا التمييز بين مستويَيْن للسياسة. فهناك ما هو سياسي بالمعنى العميق للكلمة، أي الأسس التي تبنى عليها السياسة كفعل، وهناك السياسة بالمعنى العملاني، أي الخطط والخطوات العملية التي قد ينتهجها حزب أو سلطة.
وبهذا يصبح الخروج ضد السياسة أو الحياد عنها بالمعنى العملاني هو رفض للموبقات التي ارتُكبت تحت رايتها، وهو أمر مفهوم لا بل واجب في بلد عرف من الظلم والقهر لشعبه ما عرف. ولعلّ الحساسية المفرطة لدى الكثير من اللبنانيين من كلمة سياسة والخوف من الانخراط في عمل سياسي كتأسيس الأحزاب، لهو خير دليل على تلك الحساسية.
أمّا فيما يخص المستوى العميق لفهم ما هو سياسي، فسأستعين بالمفكرة البلجيكية شانتال موف التي تقول إنّ السياسة هي مضمار الخلافات، وإنّه من التعجيزي القول إنّ هذه الخلافات يمكن تذليلها والإجماع على حلحلتها من خلال النقاش والجدال، حيث أنّ المتجادلين لن يكون لهم نفس السطوة والوزن، وليس صحيحاً إنّ من لديه الحجة الأقوى يربح دائماً. فمن يحمل السلاح مثلاً يمكنه فرض وجهة نظره على الآخر دون الحاجة لإشهاره.
وعليه، تقول موف إنّ السياسة كانت وستبقى مضمار خلافات، ولكنّ الأجدى بنا أن نحوّل هذه الخلافات من عدائية حيث يرغب الواحد بإلغاء الآخر إلى ندّية حيث يعترف الواحد بحق الآخر بالوجود. يستلزم ذلك أوّلاً، بحسب موف، الاتفاق على أسس أخلاقية (إتيكية) وسياسية عامة وجامعة تنضبط تحتها الممارسات الخلافية. وبما أنّ كل مشروع سياسي هو مشروع هيمنة، فإنّه يصبح مشروع هيمنة مشروعة إذا ما انضبط تحت الأسس الآنفة الذكر. لكنّ موف تركت الباب مشرّعاً حول ماهيّة هذه الأسس، بحيث يتمّ تحديدها وفقاً لظروف المجتمع وتشكيلاته.
بالعودة إلى خطاب نصر الله، فبعدما حسمنا الأمر بأنّ الخروج عمّا هو عملاني من السياسة، أي الممارسة اليومية وتسيير الشؤون التي يعرف اللبنانيون جميعا بالدليل المادي والحسي ضرورة الخروج عليها، نأتي هنا إلى المفهوم الأعمق للسياسة. فكيف يرى حزب الله مثلاً هذا البعد فيما يخص الداخل اللبناني؟ على ماذا يتّفق مع جموع اللبنانيين؟ إذا كان حزب الله كبقية الأحزاب في لبنان والعالم مشروع هيمنة، لماذا يفترض البعض إذاً أنه خارج الدولة أو فوقها؟
الجواب هنا بسيط. إن وجود دولة يمكن أن تتجاور في ظلّها عدة مشاريع للهيمنة، لا يستوي إذا ما كان لأحد هذه المشاريع أسس تختلف عن أسس الدولة، باعتبارها المظلة الأخلاقية والسياسية، وباعتبارها الطرف الأقوى لاحتكارها أدوات العنف. وإذا قيل إنّ السلطة التي أنتجت مشروع هيمنة حزب الله انبثقت من الانتخابات، وإن ذلك يضفي مشروعية على هذا النموذج، فذلك يرتّب التالي: أن يتحمّل الطرف المهيمن المسؤولية الكاملة والانتقاد الحادّ في حال فشل هذا المشروع في ضمان العيش الكريم والأمن للشعب.
أما أن يسيطر مشروع كهذا على حياة اللبنانيين دون إعطائهم الحقّ بالاعتراض عليه، فهذا هو تعريف الفاشية البسيط. فإذا كان الخروج ضد الأحزاب السياسية يعتبر حياداً لا طائل منه، فإنّ استثناء البعد الأعمق للسياسة من النقاش هو لبّ المشكلة، وهو ما يفرّغ السياسة من مضمونها لتصبح سوقاً مغلقاً لوكلاء حصريّين.
وبالتالي، على كلّ اللبنانيين ممّن يريدون البقاء في المعترك السياسي- وحزب الله في مقدّمهم- أو ممّن يريدون الدخول إليه، أن يجيبوا على سؤال بسيط: ما هي الأسس السياسيّة والأخلاقيّة التي يجب التوافق عليها بين الجميع لتكوين الميزان في المنازلة بين مشاريع الهيمنة المختلفة؟ هذه ليست دعوةً للخلاف، كما أنّها ليست دفاعاً عن جدوى تأليف حكومة محايدة، بل دعوة للانخراط بالنقاش الأهمّ والذي لا بدّ منه.