1
يُراد من المشهد الفلسطيني أن يكون مجرّد تكرار. اشتبكات بين عرب ويهود، تعود إلى خلاف بات عمره يفوق قرنًا من الزمن. تجدّد للحرب على قطاع غزة، يعيد إلى الذاكرة جولات القتال في الـ2008، والـ2012، والـ2014… البحث عن وقف لإطلاق النار سينهي هذه الجولة من العنف، قبل أن تعود وتشتعل من جديد، بعد سنة أو سنتين أو ثلاث. ليس من جديد إذن، أو هكذا يريد البعض تصوير ما يحدث في فلسطين.
2
لكنّ المشهد اختلف ويختلف مع مرور كل يوم احتجاج وحرب. برزت خارطة مختلفة للاحتجاج والمقاومة، من القدس والضقة الغربية إلى غزة، مرورًا بحيفا واللدّ وعكّا وغيرها من المدن، خريطة تعيد وصل ما فرّقته عقود أوسلو وسياسات التجزئة الإسرائيلية. وهي خارطة باتت تمتد إلى خارج حدود فلسطين، لتعيد وصل هذا الصراع بموجة احتجاج عالمية، كما بات واضحًا من تحوّل الرأي العام العالمي تجاهها. وهي خارطة يحملها جيل جديد من الفلسطينيين، جيل ما بعد أوسلو، جيل الثورات العربية، جيل مقاومة دولة كولونيالية استيطانية وسياساتها الإحلالية. وهنا الاختلاف الأساسي: خرج المشهد عن النصوص المعتادة، أكانت الإسلامية أو الحقوقية أو الإنسانية، ليطرح آفاقاً جديدة بعد «تهرغل» الخلاصات الماضية لهذه النصوص.
3
خرج المشهد عن نصوص الماضي، ومن أهمها، حدود رواية «الصراع العربي - الإسرائيلي» التي سيطرت على المنطقة في العقود الأخيرة. فتأتي الحرب الحالية وموجة الاحتجاج في ظل أكبر عملية تطبيع عربية، تترأسها دول الخليج، عملية تطبيع لم تتأثر بالمجازر التي تقع يوميًا في غزة. فأنظمة ما كان يسمى بدول الاعتدال سابقًا، المتمسكة بمبادرة السلام، تحوّلت إلى أنظمة التطبيع الداعمة علنًا لسياسات إسرائيل. وفي وجهها، هناك محور الممانعة الذي يرى في الدماء الفلسطينية مناسبةً لتبرئة سجلّه الدموي، وهناك بضعة دول إقليمية باتت مختصّةً باستغلال الثورات لصراعاتها الإقليمية. الصراع العربي - الإسرائيلي بات مرادفًا لصراع أنظمة دموية بين بعضها بعضاً، تستغل المأساة الفلسطينية في صراعها الجيوسياسي.
4
الخروج من نص «الصراع العربي-الإسرائيلي» لا يعني الخروج عن العمق العربي. فهي مقاومة تأتي بعد، أو في ظلّ، أو في خضمّ الثورات العربية. ربّما كان هذا التقييم سابقاً لأوانه، وليس المغزى منه حشر خصوصيات وتاريخ المقاومة الفلسطينية تحت عنوان فضفاض. لكن إذا فهمنا الثورات العربية كلحظة تاريخية يتمّ من خلالها إعادة ابتكار خطاب الاحتجاج وأدواته بالبحث عن آفاق سياسية جديدة تعبّر عن تحوّل اجتماعي كان ممنوعًا من التمثيل السياسي، فإن ما يحدث الآن في فلسطين هو في صلب هذه الثورات، وإن كان لا بُختزل بها. وفي وجه هذه اللحظة التاريخية، هناك كمّاشة الاحتلال والاستيطان والتدخّل الخارجي من جهة، ومصالح أنظمة، لا يجمعها إلّا إزدراؤها لشعوبها، من جهة أخرى.
5
بالعودة إلى لبنان، تصطدم القضية الفلسطينية ومسألة التضامن والدعم بعقبتَيْن تعودان إلى الواجهة كلما حاول أحد النظر إلى خارج حدود السيادة اللبنانية، وتجدان بتاريخ الحرب الأهلية برهانها. الاعتراض الأول قديم، وينمّ عن موقف يجمع بين حساسيات طائفية وفوقية ثقافية، أخذت شكلًا «سياديًا»، أو فهمت السيادة كدعوة للتركيز حصريًا على هذا الداخل المتخيّل، ووجدت في الأزمة الراهنة تأكيدًا لهذا التركيز الحصري. أمّا الاعتراض الثاني، فهو الخوف من تدخّل حزب الله بالصراع، ما سيؤدي إلى عواقب دموية على لبنان، إما من خلال الحرب أو من خلال دفع البلاد إلى حضن طرف من طرفَي الصراع الإقليمي. وبات «الحياد» عنوان هذا الموقف، حياد يجمع بين تخوّف مشروع وعنصرية باهتة وواقعية قاتلة، حياد لا يعني في السياسة إلا الخضوع إلى الأنظمة.
6
بالعودة إلى الانتفاضة اللبنانية، ومخيالها السياسي. فالانقسام الضمني بين رواسب الماضي تُرجِم بانقسام الرؤية إلى المنطقة ينضوي تحت صراع الأنظمة، بين من يرى بالممانعة خيارًا مقاومًا ومن يرى بالحياد المنضوي تحت الأنظمة المعادية للممانعة الموقع الطبيعي للبنان. لكنّ الخيارين ينفيان طبيعة الانتفاضة كانتفاضة شعبية، انتفاضة مكانها ضمن الثورات العربية، حيث لا مفاضلة بين الضحايا والثورات. انتفاضة تخرج من كماشة الأنظمة القاتلة والاحتلال، وتخوفها الدائم من صاروخ من هنا أو تظاهرة من هناك. انتفاضة تدرك أنّ لا خلاص «وطنياً» دون خريطة إقليمية مختلفة.