لا داعي للكتابة كثيرًا عن الموضوع من هنا. فالقضية واضحة، عدالتها واضحة، ضحاياها واضحون، الموقف منها واضح: استكمال بأساليب جديدة لسياسة التهجير والاستيطان، التي بات عمرها أكثر من سبعين عامًا. من حي الشيخ جراح المقدسيّ، تبدأ معالم انتفاضة جديدة، لكنّها تخاض اليوم بالعالم بأكمله. سنوات من إعادة ابتكار القضية، من فلسطينيّي الداخل والشتات، نجحت بإخراجها من خطابات الماضي، لتعود اليوم كقضية ذات بعد عالميّ.
سكان حيّ الشيخ جرّاح ليسوا عُزّلَ هذه المرّة.
وهذا ما يطرح علينا، هنا في لبنان، من زاوية انتفاضته المتفكّكة، سؤال التضامن. فمنذ انطلاقة الثورة اللبنانية، كحركة شعبية وكوعدٍ بالتجديد لخطاب سياسي وثقافي معارض، وهي تتبَلْكم حول مسألة وطنيتها وحدود تضامنها.
فلأن «الثورة ثورات»، لم نبالِ بدايةً بوجود «وطنية رثّة»، رفعت أعلام الجيش اللبناني، باللحظة ذاتها التي كان هذا الجيش يقمعنا، بإسم وطنية باتت أقرب إلى عملية جلدٍ وقمعٍ للذات. لم نبالِ ولكنّنا بدأنا نصطدم بحدود هذه الوطنية عند كلّ مفترق طريق يخرجنا من قوقعتنا الوطنية. اصطدمنا بها عند كل مسألة تطال اللاجئين واللاجئات، واصطدمنا بها عند كل مناسبة للتضامن مع شعوب بالمنطقة، واصطدمنا بها عند كل محاولة لإخراج «لبنان» من أساطيره الحضارية. وجاءت الأزمة لتعزز هذا «الاستثناء» الوطني بدلاً من بناء جسور جديدة مع شعوب أخرى منتفضة، فتحوّل «اللبناني» إلى الضحية المطلقة الفاقدة لأي قدرة للتضامن.
سؤال فلسطين ليس عن سكان حي الشيخ جراح فحسب، بل هو سؤال عن مدى إمكانيتنا لتوسيع حالتنا التضامنية اليوم.
فبالنسبة للبعض، هناك صعوبة لتخيّل أنّه من الممكن أن نحمل أكثر من قضية في آن، وكأن الوقوف إلى جانب من يتعرّض لعملية تهجير جماعية يتناقض مع محاربة الفساد هنا، أو أن يتضامن مع حق شعب بتقرير مصيره يتعارض مع إرادة التغيير هنا. كما أنّ هناك ميلاً للابتعاد عن القضايا السجالية لنيل رضى شعبي متخيل، ميل ينتهي بأن يصبح خطاب التغيير أقرب لعموميات الفساد والشعب المعتّر وشتم الطائفية.
وبالنسبة للبعض الآخر، هناك خوف من التضامن مع شعوب المنطقة، خوف يعود إلى تاريخ الحرب الأهلية ورواياتها عن «حرب الآخرين على أرضنا»، خوف بات ينمّط الجماعات الأهلية ويتعاطى معها كبلوكات من التعصّب والقوقعة، وهي رؤية يلتقي حولها العلماني بازدرائه والطائفي بتعصبه. لكنّه أيضًا خوف من «استثمار» الممانعة وأنظمتها لقضايا التحرّر في المنطقة، خوف يجعل البعض يضبطون حدود مخيلتهم السياسية حسب خطابات حسن نصرالله.
فسؤال فلسطين هو سؤال عن قدرة الحالة المنتفضة في لبنان على إعادة ابتكار هوية أكثر رحابة ومخيلة سياسية أكثر اتّساعاً. هو سؤال ليس عن التضامن خارج الحدود فحسب، بل لفتة إلى الداخل، لفتة واقعية إلى هذا الداخل من دون أساطير القومية، لفتة إلى هذا الداخل الذي يسكنه غير لبنانيّين والذين بقوا خارج مطالب الثورة «اللبنانية».
في لحظة الاجتماعات مع ممثّلي الدول، ولحظة التدويل القصوى للأزمة اللبنانية، ولحظة اكتشاف أن لبنان ليس جزيرة معزولة، ولحظة انحلال الحدود والهويات، بات حيّ الشيخ جرّاح والموقف منه سؤالاً أساسياً لمن ينتمي إلى «بيئة» الانتفاضة. سؤال يفصل بين من يعتبر نفسه جزءاً من حركة الثورات العربية والانتفاضات الشعبية، ومن يطرح نفسه وريث «النظام» ولكن مع شهادات جامعية، سؤال عن إعادة ابتكار موقف معارض عابر للحدود بدلاً من ترميم وطنية مهترئة، تنكبّ على الضحايا أينما كانوا.