ننصف أنفسنا لو قلنا إنّ هبّة فلسطين من النهر إلى البحر فاجأت وعينا، بينما كنّا نتلهّى بحرب الجوائز، تلك التي لمع فيها بياض نجم الألماني هابرماس وهو يزايد عن الحرية والديموقراطية من خلال موقفه الرافض لجائزة إماراتية.
لكنّ هذه الهبّة لم تفاجئنا.
كما لم نتفاجأ أنّ البياض الذي كان قد لمع قبل وقت قصير، انمحى وذاب كما يذوب الملح. فكما تعوّدنا، سرعان ما آثر الفيلسوف الصمت والنكوص عندما آن امتحان الدفاع عن الحرية والحياة والديموقراطية في فلسطين.
أقصد القول إنّ الهبّة لم تفاجئنا من ناحية امتدادها الوحدوي من الميّة للميّة، لكونها مجرد ردة فعل عبّرت عن وعي يعكس بدقة ويمثّل بأصالة واقع الأبرتهايد القائم والاستيطان الاسرائيلي في فلسطين التاريخية كلها.
وقد شكّل سنّ قانون القومية الإسرائيلي آخر تجليات هذا الواقع، الواقع الاستيطاني الذي ينسخ «الاستيطان الجديد الأجدّ» من المناطق التي احتلّتها إسرائيل عام 67 إلى مناطق الـ48، وعلى رأسها اللد والرملة ويافا وحيفا.
محت إسرائيل الخط الأخضر لتتبع ذلك وحدة الهبّة.
لكنّ الهبّة تجاوزت عتبة ردة الفعل هذه لتفاجئنا بجيل جديد لا يخاف.
جيل علا صوته على صوت «قيادة» رام الله التي أهرمها التنسيق الأمني، ولم تعد تمتلك سلاحا غير سلاح الشتيمة من الصين إلى أميركا، ومن المحيط إلى الخليج. وبحسب المنطق ذاته، لم يفاجئنا الصبايا والشباب بالردّ على الرئيس المحتمي بالشتائم بشتيمة أقذع منها.
كذلك، علا صوت هذا الجيل على صوت «قيادات» أخرى في الداخل الفلسطيني كانت قد اختارت من قبل، ومن بعد، أن تنساق وراء رياح التطبيع، وأن يكون دورها في خضمّ حروب الشيعة والسنّة ذبْحَنا على مذبح الأسرلة.
وهكذا تبدّل خلال الهبّة دور القيادة ليصبح، وكأنما بالضرورة، «أبوّة» تنهر وتزجر وتنصح الصبايا والشباب، بالمحافظة على النظافة وعلى الممتلكات العامة.
في أوج هذه الهبّة، تراجعت إسرائيل ابتداءً بحكومتها وانتهاءً بمحاكمها.
فسجّلت هبّة المَيّة للمَيّة في الشيخ جرّاح وفي الأقصى المبارك وفي الداخل الفلسطيني انتصاراً جديداً يجمع الكلّ الفلسطيني من قلب القدس الشريف. التحم القدس والداخل الفلسطيني بحكم التماس المباشر بلا وساطة. كنّا بانتظار اكتمال خريطة الهبّة الشعبية العارمة ذاتها، بنفَسها وروحها ومفرداتها وشتائمها، بالتحام بحر غزّة مع بحر حيفا، وتراب الضفّة الغربية مع تراب القدس.
في هذه اللحظة بالذات، فاجأتنا حركة حماس بصواريخها. ومن هنا، تبدّل الخطاب وقيل إنّ المقاومة عبارة عن دعم للهبّة.
هكذا، ومع انتهاء العدوان على غزّة، لم يفاجئنا بأن حُمِلنا على بساط (غير سحري بتاتاً) من الامتداد الفلسطيني الذي خطه كلّ من القدس الشريف والداخل الفلسطيني، إلى الخانة القديمة نفسها، هي خانة «حلّ الدولتين الواحد الوحيد» أو خطاب المقاومة اللي هيك والمقاومة اللي مش هيك، أي إلى مربّع فتح وحماس.
تذكّر العالم فلسطين وسجن غزّة الكبير.
كان هايكو ماس، وزير خارجية ألمانيا، أوّل الحجّاج الوافدين لتثبيت المعادلات القديمة في مواقعها المألوفة والدفاع عن الأبرتهايد باسم العالم بأجمعه. وهو العالم ذاته الذي ظلّ يفضّل التظاهر بالصمم عندما كانت شتائم محمود عباس تستدعي ردّه. لكنه جاء وحضر عندما ثنّت حركة حماس، مستدعيةً إياه بصواريخها.
أما الآن، فهو لنا مهلة نتدرّب فيها على لغتنا الجديدة ونلمّع خلالها اسمنا القديم- الجديد: فلسطين.
من قبلنا ثورات 2011، وثورات السودان والجزائر وانتفاضة لبنان. مرّت سنوات عشر كنا فيها نسقي بالماء والدموع وعياً ألفناه كالنبات يحيا وينمو دون أن يحلق أو يطير.
يلزمنا، يلزم المقاومات (جمعاً)، التدرّب على لغة الحركة وفن الطيران.
يلزمنا الآن، وحتى ذاك الحين، الحذر وألّا نغفل لحظة واحدة عن رياح الثورة المضادة التي أعانت طائرة هايكو ماس على الإقلاع، والتي حضرت وعملت لتتحيّن لنا في المرصاد.