تعليق سوريا
سامر فرنجية

مدينةٌ تلوَ أخرى، دمعةٌ تلوَ أخرى

10 كانون الأول 2024

12 يوماً بطعم نصف قرن

كانت سنة بطعم قرن. لم نعد نحصي الأحداث «التاريخية» التي عشناها. فحجم الأحداث التي تنهال علينا أكبر مما يمكن ضبطه بمفاهيمنا المعتادة، ليصبح الاستثنائي طبيعيًا، ونحن كائنات تائهة تبحث عن أي ثبات لكي تتمسّك به. من عملية «طوفان الأقصى» إلى «عودة» فلسطين إلى الساحة العالمية، ومن ثمّ الإبادة المصوّرة والمباشرة، والحرب على لبنان واجتياح التقنية للحياة، أُصِبنا بأحداث كان يحتاج كلٌّ منها إلى سنوات لهضمه. لكنّنا لا نمتلك هذه الرفاهية. فقد تخدّرْنا حتى نستطيع الاستمرار في عالمنا الاستثنائي هذا. 

ربّما لأنّنا تخدَّرْنا، لم نلاحظ بدايةً حجم الحدث الجديد. أو ربّما لأنّ المنطقة بدت وكأنّ معالمها الجديدة قد ارتسمت، فلم نعد نتوقّع «الجديد». لكنّنا تعلّمنا أيضًا، وبقسوة، ألّا نتوقّع أخبارًا سارّة من سوريا، مصدر الحدث «الجديد» بعد خيبات الماضي ومآسي الحاضر. أطلقت فصائل المعارضة السورية عملية «ردع العدوان» في الشمال، هدفها حلب. الخبر بحدّ ذاته لم يكن استثنائيًا. فهناك معارك دائرة منذ سنوات، ولم تبدُ هذه العملية مختلفة عمّا سبقها من مناوشات لتحديد حدود مناطق النفوذ. لكن سرعان ما بدأت المدن السورية تتحرّر واحدةً تلوة الأخرى، والنظام ينهار، أو يختفي، أمامها: حماة، درعا، حمص، القصير، وفي ليل السبت والأحد، تحرّرت دمشق وفرّ بشار

ما بدأ كاستكمال لـ«الحرب الأهلية» السورية ولصراع النفوذ الإقليمي، بدأ يتلوّن في ساعات هذا الليل بتلاوين «الثورة السورية»، هذه الثورة المشاغبة، التي قسمت العالم حينها، وما زالت تشاكسه. ففي اللحظة ذاتها التي اعتقد العالم أنّ المنطقة قد رست على خريطة جديدة وانتهى مسلسل الأحداث، جاء الحدث السوري ليشاكس هذه الخلاصة، ويذكّرنا بأنّ الأبد لن يدوم، وقد ينهار بين ليلة وضحاها، ليلة السابع من كانون الأول وضحى الثامن من كانون الأول تحديدًا. 


شبح «الثورة السوريّة»

12 يوماً كانت كفيلةً بإيقاظنا من تخدير سنة المآسي هذه. 

كانت عملية «ردع العدوان» أسرع من مشاعرنا. فعندما بدأنا نستوعب الوجهة الأخيرة لهذا الهجوم، لم يعد هناك وقت كافٍ للبحث عن المشاعر أو التفكير بقلق أو محاولة فهم ما يجري. لم نجد إلّا الدموع لمواكبة ردع العدوان. مدينة تتحرّر تلو الأخرى، دمعة تسقط تلو الأخرى. دموع لماذا؟ دموع فرح بفرار الأسد ونظامه الدموي؟ دموع عن وجع بدأت تظهر معالمه إلى العلن؟ دموع جراء إحساس بالذنب أنّنا «نسينا» سوريا وثورتها في لحظة الخيبة؟ دموع حيال ثورة عايشناها، حتى باتت هويّتَنا السياسية الوحيدة ونحن من أيتامها العديدين المشرّدين بهذا العالم القاسي؟ ربّما بسبب كل هذا، أو بكل بساطة، بسبب طيف الذكريات الذي اجتاحنا مع استذكار هذه المدن، حلب، حماة، القصير، درعا، حمص، التي شكّلت قبل عقد من الزمن عناوين تظاهرات يوم الجمعة. سقط «النسيان» الذي خضعنا له، وعادت هذه السنوات الجميلة والمؤلمة، أول تظاهرات، أول انشقاقات، صوت الساروت، ساحة حمص، أطفال درعا، الجيش السوري الحر، حرائر الشام، الهجوم الكيميائي في غوطتَيْ دمشق الشرقية والغربية، الاعتقالات، الهجرة، القتل، حصار حلب، النزوح…

ايش يلي صار؟ سقط النظام! ههههه، تعليق معتقل لحظة تحريره يكفي لتلخيص الوضع.

ندرك تمامًا أنّ المعارضة السورية وفضائلها ليسوا «الثورة السورية» التي انفجرت في عام 2011، بل شارك بعض هذه الفصائل في قمع الثورة أو الجانب المدني أو التحرري منها. رغم ذلك، كان طيف «الثورة السورية» يحوم حول سقوط الأسد، وإن كان سقوطه نتيجة صفقة إقليمية (كما أنّ بقاءه على مدار السنوات الأخيرة كان نتيجة دعم إقليمي). ندرك كل ذلك، لكنّ هذا لا يلغي وجود هذا الطيف الذي يحوم فوق الأحداث في هذه الأيام. لم تظهر معالمه من خلال الذكريات والاستذكار والعَلَم وحسب، بل في الروح «المشاغبة» لهذه الثورة، هذه الثورة التي لم تقبل إلّا أن ينقسم العالم من حولها. فلم يكن لها مكان واضح في الاصطفافات المعتادة عند اندلاعها، ولم يكن أحد يريد تبنّيها. لكنّها فرضت نفسها على الجميع، وأجبرتهم بإعادة النظر بمسلّماتهم السياسية. ومَن خاف من هذا الفرض، انتهى طبّالاً للأسد. بين الثورات العربية، كانت الثورة السورية الأكثر تطلُّباً للتحوّلات في أنماط التفكير الموروثة. وربّما لذلك، شكّل قمعها، من خلال المجازر والإبادة، نهاية الربيع العربي. 

إبادة قبل الإبادة الحالية، إبادة مرّت مرور الكرام، لذلك ربّما بات العنف مقبولًا إلى هذا الحدّ في منطقتنا. 


السجون معيار

لم يأتِ شبح «الثورة السورية» من بعد الموت، بل من بعد النسيان. فـ«النسيان» شكّل ميزة نظام الأسد وسياسته المفضلة. نسيان الناس في السجون، إجبارهم على نسيان أسمائهم، نسيان أنّ هناك شعبًا ومجتمعًا، قتلُ من حاول أن يتذكر، نسيان أن هناك بلداً خارج مصلحة عائلة ضيقة، نسيان أن هناك ثورة كانت. نسيان أن هناك بلداً لا يزال محكوماً من سجون وتماثيل وقصور، نسيان هذه «الفضيحة» الإنسانية التي تُدعى نظام الأسد. وبعد الـ2017، نسينا سوريا، خضعنا لهذا النسيان، المدعوم إقليميًا والمنظَّر ثقافيًا والمؤكد ميدانيًا. ربّما لأنّنا نسينا، تفاجأنا بأنّ المستحيل لا يحتاج إلى أكثر من بضعة أيام لكي يتحقق. 

لكنّنا لسنا في 2011. بين هذا التاريخ والحاضر، 13 عامًا من العنف الذي حوّل طبيعة هذا الحراك الاعتراضي، ودمّر ما كان قائمًا بعد عقود من قمع بيت الأسد. عنف انفجر ثأر طائفيًا وتعذيباً مصوَّرًا واقتتالًا متنقّلًا وميليشيات متصارعة. ولا أحد يتوقع أن يُخلي هذا العنف المسرح لمجرّد سقوط الأسد. فهو أوفى بوعد واحد خلال الـ24 سنة من حكمه: الأسد أو نحرق البلد. البلاد التي تحرّرت هي أرض محروقة، والأمور تتطلّب الكثير لتفادي كل الانزلاقات العنفية المحتملة. طال انتظار هذا المشهد 13 عامًا، كانت الأنظمة المجاورة تتفاوض خلالها مع بعضها بعضاً. كان من الممكن تفادي كل هذا العنف والقتل والتهجير. لكنّ في هذه المماطلة درسًا أرادت الأنظمة تلقينه لشعوب هذه المنطقة.

وقد وصل الدرس. فلسنا في زمن الثورات العربية، وما مِن سجالات اليوم كتلك التي واكبت الثورات الشعبية آنذاك. الجميع مُنهَك، والجميع بات خارج الصورة. في عالم الحروب الإقليمية والصراع حول نفوذ الأنظمة، ليس لدينا الكثير لنقوله. فبعد لحظة الثورات العربية، عادت الأنظمة لتسيطر على مجرى الأمور وتعيد إنتاج خريطة جديدة لقمعها. لكن في كلّ مقطع لسجن يتمّ تحرير المعتقلين منه، وفي كلّ لقاء بين أشخاص فُرِضت عليهم الهجرة، وفي كلّ مركز مخابرات يتمّ إقفاله أو تمثال يتمّ تدميره، ثمّة فسحة صغيرة من الحريّة أو مجرّد حياة. صغيرة، وربّما مؤقتة، لكنّها حقيقية وفعلية. سوف يأتي مثقّفو الـ«يجب علينا…» ليذكّرونا بأنّ هذا لن يصنع سياسية طويلة الأمد. لكن في عالم باتت تضيق به إمكانيات الحياة قبل التغيير، تمثّل صُوَر من يُستخرَجون من سجن كانوا مطمورين فيه لسنوات، أوضحَ تعبير للحرية، وشرطَها الأساسي. 

ما تخافوا، ثوار، ثوار، نحن ثوار، محاولة لمقاتل لطمأنة من يحرّرهم، وأوضح تعبير عن العقد الاجتماعي لأي ثورة.

تبقى الحرية من السجون معياراً، مادياً، فعلياً، حقيقياً، الشرط الأساسي للبدء بالتفكير بأي مستقبل. فما هي الثورة إن لم تكن بأبسط تجلياتها، أناساً يطالبون ببعض حقهم في الوجود؟ وما هي الأنظمة، إن لم تكن عائلات حاكمة سخّرت البلاد لها؟ والسجون هي الرابط بينهما. قبل القلق المشروع على المستقبل، علينا القبول بتلك «البساطة» السياسية، بحق الشعوب بالحياة ووقاحة الأنظمة العربية. 

في هذه المنطقة الملعونة، بين فلسطين ولبنان وسوريا، من الصعب التأمّل بأيّ شيء. العنف المنظَّم لهذه المنطقة لا يحتمل الأفكار أو المشاريع أو المعايير. لكن رغم كل شيء، ما زالت هذه المنطقة تؤكّد أنّ الذلّ لن يدوم. قد لا يكفي هذا لبناء مستقبل، لكنّه كافٍ ليشكّك بثبات الحاضر المفروض علينا.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
تعليق

طفلٌ لن يحكمه الأسد

منار شربجي
نتنياهو يستعرض في جبل الشيخ
حدث اليوم | الثلاثاء 17 كانون الأول 2024
17-12-2024
أخبار
حدث اليوم | الثلاثاء 17 كانون الأول 2024
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 17/12/2024 
عائد إلى القصير
17-12-2024
أخبار
عائد إلى القصير
انتشال رفات 21 جثماناً في ريف دمشق