منذ انطلاقة ثورة تشرين، تسود نظرة محدّدة عن علاقة الثورة بكلٍّ من الخارج (الدولي) والداخل (اللبناني). وهي نظرة تفصح عن حقيقة أنّ «الخارج» شبه مختفٍ عن التفكير بما يحصل «داخل» لبنان. إذ تتداخل النوازع الأيديولوجية الطبقوية لدى أكثرية تعتقد أنّه من مصلحتنا كثائرين أن نفهم الثورة بوصفها نتاجاً خالصاً للأزمة الاقتصادية، وبأنها نتيجة حصريّة لطبيعة النظام اللبناني. ويتقاطع ذلك مع ما يعتبره كثيرون مصلحةً سياسيّةً في أن يعبّر المشروع الثوري عن ذاته من خلال شعار «كلّن يعني كلّن» من أجل تحقيق الهدف المنشود، ألا وهو توحيد العمّال والعاطلين عن العمل وأبناء الطبقة الوسطى الدنيا ضدّ الطبقة الحاكمة. لكنّ المصلحة السياسية، كما التوصيف الطبقوي غير الماركسي، تبقى دون الواقع وفهمه في هذه الحالة.
لا يهمّ هنا إن لم تكن تعتقد أنتَ أنّك حبّة حنطة. ما يهمّ هو أنّ الدجاجة مقتنعة أنّك حبّة حنطة وبأنها تريد أن تنقرك. لهذا تساءل الكثير من المحتجّين ببراءة وصدق: لماذا يتنطّح موالو «حزب الله» لاعتبار الثورة اللبنانية مؤامرةً ضدّهم رغم أنّهم، أي المحتجّين، يعتبرون الزعماء الآخرين أكثر فساداً بكثير من «حزب الله»؟ لماذا يكون «حزب الله» هو الطرف الذي يتزعّم وينسّق عملية الردّ السياسي والعنفي على الثورة، حتّى أنّ النائب محمّد رعد صرّح مؤخّراً أنّ ما يواجهه حزبه يوازي حرب تمّوز 2006 وأنّ حزبه «سينتصر الآن كما انتصر حينها»؟ لماذا يحدث الهجوم على المتظاهرين في بعلبك من قبل الموالين لحزب الله رغم أنّ المتظاهرين هناك هم «شيعة» مثلهم؟
قبل 17 تشرين، بدا أنّ التسوية الرئاسية هي ثمرة الداخل لانتصار إيران وميليشياتها في الخارج. ميشال عون رئيساً، وجبران باسيل وكيلاً، وحسن نصر الله مرشدًا. إنّه الثالوث المقدّس الذي نرزح تحته اليوم. وهو أداة الخارج الإيراني الذي يحوّل بلادنا، برضا ودعمٍ أميركي، إلى منصّة للهجوم على الدول العربية. أمّا نظامنا الليبرالي المشوّه بنيويًا، والمطبوع بتهجير الشباب واستيراد الدولارات، فقد كان يمكن أن يستمرّ باستجلاب الأموال من الخارج كما كان يفعل خلال العقود الثلاثة الماضية. كان يمكن ألا يبدأ بالانهيار منذ العام 2015 حين تدهور الاستثمار الأجنبي في لبنان بنسبة 24%، لولا أنّ الدولارات التي تأتينا من الدول العربية لم تقلّ للسبب الأهمّ، وهو الحروب التي يشنّها جزء من اللبنانيّين.
لذلك لا يختلف التعامل الإيراني مع ثورة تشرين في لبنان عمّا هو عليه الحال في العراق. فمنذ احتلال الولايات المتّحدة للعراق عام 2003 ثمّ تسليمه لإيران، تمّ تحويل العراق ولبنان إلى مناطق نفوذ إيرانيّة بتغطية أميركية تنخرهما اقتصاديات فاسدة تعمل على شراء الولاءات المذهبية. لهذا أيضاً ينزل العراقيون، مثلنا، في جنوبهم «الشيعي» بأكثريّته، بشعاراتٍ بدأت اقتصاديةً بحتة ليصرخوا «باكونا (سرقونا) الحرامية باسم الدين» ضدّ الأحزاب الطائفية الموالية لإيران. وهناك أيضاً، ترتكب الميليشيات المؤاخية لحزب الله المجازر ضدّ الثوار، في حين يريد نصر الله تقرير هويّة رئيس الوزراء العراقي المقبل بغطاء أميركي، تماما كما لم يكتم حزب الله فرحه بأنّ الولايات المتّحدة لا تمانع وجوده في أي حكومة لبنانية مقبلة.
عندما نحاول في لبنان أن نبني دولة مدنيّة، فإننا نحاول، حتى لو لم نقُل ذلك علناً، هدم علاقات الولاء الطائفية التي يعتاش عليها الزعماء اللبنانيون، بمن فيهم الزعيم حسن نصر الله. إننا في نهاية المطاف، ومن خلال احتجاجنا الطبقي المحض في الظاهر، وحتى لو لم يفكّر في ذلك كلّ متظاهر طُرد من عمله، نخطو خطوةً حاسمة لوقف كلّ هذا الجنون الدموي الذي دمّر بلادنا وبلاد أناس عاديّين آخرين تمّ تشريدهم وقتلهم وتعذيبهم.
لكلّ هذه الأسباب، ترانا الدجاجةُ حبّةَ حنطة رغماً عنّا. ثورتنا اللبنانية هدفها كذلك بناء دولة مواطنة من أجل السلام في هذا العالم، مكانٍ فيه قدر أكبر من الإنسانية وبقعة أرض لا تشتري لنا أعداء أكثر كل يوم. وفي مواجهة كلّ ذلك، يقف الخارج الاستعماري ليعادي الثورة العراقية، وهو نفسه الداخل الرجعي الذي يعادي الثورة اللبنانية.