شوف الليرة ما أحلاها بتقطع من هون لهونيك.
لطالما استوقفتني تلك الجملة البديهية من أغنية «يا زمان الطائفية» (زياد الرحباني/ جوزف صقر). فبخلاف المتداولين بها، لم تعرف الليرة مذهبًا خلال حروبنا الأهلية. لم تعانِ يومًا من حواجز الميليشيات على المعابر. كانت كلّ طرقاتها سالكة وآمنة. كان الأمر ليختلف كليّاً لو طاولها الانقسام الذي أصاب البشر. لكنّا قد أمضينا وقتاً بمتابعة سعر الصرف ما بين الدرهم الماروني والجنيه الدرزي، قبل الالتفات لتقلّبات قيمة الدينار السنّي مقابل الدولار الشيعي. لم يحصل ذلك. لم تنتشر مكاتب الصيرفة على المعابر. بقيت الليرة حرّةً والناس في الأسر.
تذكّرتُ تلك الجملة في ليلة المصارف بعد بدء حملة الاعتقالات. السياقان (الحرب الأهلية وحاضرنا) مختلفان، لكن للذاكرة ألاعيبها التي لا قدرة لنا على التحكّم بها. نبّهتني إلى إمكانية تكثيف آليات عمل النظام بشعار: «الحرية لرأس المال والاعتقال للبشر».
فنحن نواجه نظامًا يهرّب رساميله إلى الخارج بينما يعتقل معاشات الناس وتعويضاتهم، ما يُفقدها قيمتها الفعلية يوماً بعد يوم. كان الحلّ الذي اعتمده بمواجهة الانهيار الاقتصادي واضحاً: الحريّة لآلهة المال و«الهيركات» للبشر. ولم يكن استقبال السلطة لرأس مالٍ مُنتشر، فارّ من العدالة، متخفٍّ بقناعٍ بشريّ داخل صندوق أسود (كارلوس غصن) في زمن خنق صغار المودعين إلا دليلاً إضافياً على طبيعة نظام يعشق فتح باب اللجوء أمام الرساميل (الفلسطينية بعد نكبة 1948، والسورية بعد تأميمات الصناعة والمصارف في الستينات). نظامٌ مُناه تنفيذ سياسة جوار على أساس: «وطِّن رِسْمال، رجِّع لاجئ».
لا يقتصر اعتقال البشر على الذراع الاقتصادية للنظام، بل تساهم به كلّ أذرعته الأخرى.
يعتقل النظام الأمني الثوّار، تُقنص أعينهم بالرصاص المغلّف بالمطاط، يمطَرون بالغازات الخانقة، يضربون بالعصي ويهدّدن بالاغتصاب. في المقابل، لا شيء يعيق حريّة الشبيحة وعناصر الأجهزة الأمنية التي ضمّت مؤخراً حرق الخيم إلى نطاق صلاحياتها.
يدعّم الإعلام الرسمي نظام الاعتقال. فمنذ بداية الثورة لم يتوقّف عن محاولة التأكُّد من سجل نفوس الثوّار والارتياب من حركة الناس بين المناطق. فـ«أعمال الشغب» في بيروت، تُنسَب مباشرةً إلى مندسّين من مناطق أخرى (الطرابلسيون، أبناء الضاحية الجنوبية). وصل الأمر بجورج غانم، الأخ البكر للأخوين اللذين يشكلّان ديو إعلامياً مميّزاً في خدمة النظام، إلى الكلام عن انتقام الريف من المدينة. من الأخوين رحباني إلى الأخوين غانم، لم تفقد أهزوجة «الغريب» (برابرة الداخل أو الخارج) الذي سرق الجرّة/ كسر الواجهة شيئاً من بريقها. تحلّق، كتوأمها نظرية المؤامرة، خارج الزمن.
يُظهر الابتعاد قليلاً عن الحدث الثوري الطرقَ البنيوية التي يقبض بها النظام علينا.
يعتقل نظام المحاصصة الطائفي، الناجح في السرقة والفاشل في أدنى درجات السياسة، حيوات اللبنانيين من خلال تعطيله الدائم لمؤسّسات الدولة، ما ينمّ عن احتقارٍ كامل لنا ولحقوقنا.
يعتقل النظام المذهبي- البطريركي الناس داخل طوائفهم. يرفض وضع قانون مدنيّ للأحوال الشخصية يتيح للناس حرية التحرّك خارج أطر المذاهب، بينما تأسر قوانين الحضانة الأمّهات اللواتي يوضعن أمام خيار مستحيل: إما الحضانة والاستمرار مكرهاتٍ بزواج لم يعُدن مقتنعاتٍ به، وإمّا الحريّة الشخصية بلا حضانة.
يأسر النظام البطريركي- البيروقراطي اللبنانيين المولودين من أب غير لبناني ومكتومي القيد. يحرمهم من حقوقهم ويحدّ من حريّة تنقلهم.
يخلع نظام الاعتقال قفّازاته عند مواجهة من أجبرتْه النكبات العربية المتتالية إلى اللجوء إلى لبنان، والفقراء الذين أتوا للعمل فيه. يختنق الفلسطينيون في المخيمات، تفرض البلديات حظر تجوّل على المواطنين السوريين، وتُحبس العاملات في المنازل بعد تجريدهنّ من جوازاتهنّ. يواجهون عنف القوانين المجرَّد، وعنف الإذلال المعنوي، وعنف السلاح واللكمات المباشر. يحدث ذلك فيما تتحوّل بعض وسائل الإعلام من التهليل للثورة إلى عنصرية مقيتة بلمح البصر عندما يدخل «السوري» أو «الفلسطيني» إلى الحدث، فيعود نظام الاعتقال المكبوت إلى صدر الشاشة.
تقلب الثورة منطق النظام رأساً على عقب: الحرية للناس وليست للرساميل. لكنّ ذلك لا يتحقّق بالاكتفاء بفكّ أسر اللبنانيين واللبنانيات، دون السعي إلى تحرير سائر المخنوقين على أراضي الجمهورية. وما للمشكّك بذلك إلا مراجعة حلم رفيق الحريري الذي ذكّرنا به وريثه مؤخراً؛ الحلم الذي كبّل مستقبل اللبنانيين بالديون، وقام على استغلال سواعد عمّال البناء السوريين.