الدَوْلَرة من خلال فكرتَيْن
تُعرَّف الدولرة على أنها انتقال المجتمع والاقتصاد إلى استعمال عملة أجنبيّة أخرى في التداولات الماليّة والادخار وقياس قيمة السلع، إلى جانب العملة المحليّة أو حتى بدون وجود عملة محليّة أصلًا. ومنذ فترة، تدأب أوساط ماليّة وسياسيّة- مؤيّدة لفكرة الدولرة الشاملة- على تسويق فكرتين مرتبطتين بمسألة الدولرة في لبنان، فيما تجنّدت وسائل إعلام وفقرات إخباريّة للإضاءة على هذه المزاعم بوصفها حقائق إقتصاديّة قائمة في السوق.
الزعم الأوّل الذي يروّجه بعض دعاة الدولرة الشاملة، يذهب للقول بأن السوق بدأت تتجه نحو الدولرة بعد حصول الأزمة القائمة. بمعنى آخر، الدولرة هنا باتت إحدى أدوات التصحيح التي ذهبت إليها السوق بشكل تلقائي في ظل الانهيار، كنتيجة لتهاوي الثقة بالعملة المحليّة. وبما أنّ اليد الخفيّة في الأيديولوجيا الليبراليّة تعيد إنتاج التوازنات والحلول، فالمطلوب بحسب هذا الزعم أن نعتبر الدولرة أحد المخارج التي دفعت باتجاهها السوق كمخرج أو حل.
الزعم الثاني الذي يتمّ الترويج له، وبالاستناد إلى الزعم الأوّل، هو أنّ الدولرة الشاملة قد تكون حلاً نهائياً أو جذرياً للأزمة النقديّة القائمة. بهذا المعنى، إذا كانت السوق قد رفعت معدّلات الدولرة للهروب من أزمة الليرة اللبنانيّة، فبإمكان الدولرة الشاملة- أي استعمال الدولار في جميع التداولات- أن تكون العلاج الحتمي والأخير.
الدولرة ليست تصحيحًا تلقائيًا للسوق
كما هي العادة، حين لا يتم الرد على بعض المزاعم، تُكرَّس كبديهيّات لا تقبل الشكّ، ثم تُبنى حلول ومعالجات على أساس هذه البديهيّات، غير العلميّة أصلًا. ولهذا السبب، من الضروري تفنيد ونقد هاتين الفكرتين.
بالنسبة للزعم الأوّل، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات للدلالة على أن الدولرة كانت أساسًا أحد أركان النموذج الاقتصادي الذي قام منذ التسعينات، وبأنّ الدولرة بحد ذاتها كانت شكلاً من أشكال التشوّهات البنيويّة التي أدّت إلى الانهيار. بهذا المعنى، لم تكن الدولرة طريقة صحّح من خلالها السوق نفسه بعد حصول الانهيار، بل كانت أمرًا واقعًا موجودًا منذ زمن، بل وكانت جزءًا من المشكلة لا التصحيح. للدلالة على ذلك، تكفي الإشارة إلى التالي:
- خلال السنوات التي سبقت الانهيار، والتي لم تكن قد شهدت بعد فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، تجاوزت نسبة دولرة الشيكات حدود الـ80% في بعض الأشهر، فيما تجاوزت نسبة دولرة الودائع حدود الـ70% في محطات معيّنة. بمعنى آخر، كان النظام المالي، بما فيه وسائل الدفع والادخار، يعاني أساسًا من نسب دولرة خياليّة.
- في واقع الأمر، كانت الدولرة مسألة مكلفة على النظام المالي، بل وكانت أحد أسباب تنامي فجوة الخسائر الموجودة اليوم، والتي تمثّل الفارق بين ما يترتّب على المصارف من التزامات للمودعين بالعملة الصعبة وما تبقى من عملات أجنبيّة. على سبيل المثال، أشار حاكم مصرف لبنان نفسه خلال المفاوضات مع صندوق النقد إلى أنّ 35 مليار دولار من التزامات المصارف للمودعين، والتي دخلت في عمليّة احتساب الخسائر، تراكمت كفوائد على المصارف منذ العام 2014.
- على مدى السنوات الماضية، كان النظام المالي يتكبّد خسائر ضخمة كفوائد على التزاماته بالدولار، للتمكّن من استقطاب العملة الصعبة من الخارج، وتمويل النموذج الموجود والقائم على الدولرة نفسها.
بهذا المعنى، فإنّ الدولرة كانت موجودة أساسًا كجزء من الأزمة. أمّا ما شهدناه بعد حصول الانهيار، فلم يكن سوى الانتقال إلى الاقتصاد النقدي، وترجمة الدولرة- الموجودة أساسًا- في تداولات السوق اليوميّة.
الدولرة ليست حلًا للأزمة الراهنة
الزعم الثاني والأخطر، يطرح الانتقال إلى الدولرة كحل نهائي، إما بشكل صريح عبر اعتماد الدولار في جميع عمليّات الدفع والادخار، أو بشكل غير مباشر عبر أداة «مجلس النقد» التي تعتمد على ربط قيمة كتلة العملة المحليّة المتداولة باحتياطات متوفرة من الدولار أو عملة أجنبيّة أخرى، ما يجعل قيمة العملة المحليّة مجرّد انعكاس لعملة أجنبيّة أخرى.
- هل يعلم أصحاب هذا الطرح أنّ 3% فقط من الأُسَر المقيمة تملك دخلاً بالدولار النقدي؟ وأنّ 8% من الأسر المقيمة يمثّل دخلها بالدولار أكثر من 8% من إجمالي دخلها؟ ولذلك، هل فكر هؤلاء في نوعيّة الانقلاب في تركّز المداخيل والثروة الذي سيحصل بمجرّد نقل كل تداولات السوق إلى الدولار؟
- من أين سيحصل الاقتصاد المحلّي على العملة الصعبة لتمويل تداولاته الداخليّة، بعد دولرة هذه التداولات؟ وهل يعلم أصحاب الطرح أن قيمة الناتج المحلّي ما زالت تتخطّى حدود الـ21.8 مليار دولار، في حين أن ما يدخل من تحويلات خارجيّة لا يتخطّى حدود الـ7 مليار دولار؟
- وفوق كل هذا، كيف ستتعامل الدولة مع متطلبات إنفاقها في المرحلة المقبلة، ومتطلبات المصرف المركزي في عمليّة إعادة هيكلة المصارف، بعد تجريد الدولة من سلاح السياسة النقديّة والقدرة على خلق النقد؟ قد يكون من المفيد التذكير بأن مشكلتنا لا تكمن في وجود فكرة السياسة النقديّة أو خلق النقد بحد ذاتهما، بل في نوعيّة الفئات المستفيدة منهما في الوقت الراهن.
باختصار، من يقدّم الدولرة على أنّها معالجة نقديّة حقيقيّة، يسقط في فخ الحلول المبسّطة، بل وفي فخ تصوير أزمة داهمة على أنها الحل. أهم ما في الموضوع، ليس إدراك خطورة الدولرة فقط، بل إدراك خطورة الحلول التبسيطيّة بكل أشكالها. نحن لا نحتاج اليوم إلى حسم مسألة السياسة النقديّة كخطوة أولى، بل إلى الشروع بالتفكير بكيفيّة إعادة هيكلة الاقتصاد بأسره، وهو ما يشمل نوعيّة القطاعات التي نريد العمل عليها، وشكل البنية التحتيّة والميزانيّة العامّة والنفقات التي يمكن أن تخدم هذا التصوّر، ونوعيّة القطاع المالي القادر على التكامل معه. وفي خلاصة الأمر، يمكن للسياسة النقديّة أن تتحدد بحسب هذا التصوّر الشامل. أما تقديم معالجات نقديّة كحل نهائي، فليس إلا إمعاناً بالاستخفاف بنوعيّة الأزمة التي نمر فيها.