سرَتْ أمس أنباء عن اجتماع يُعقَد في باريس الأسبوع المقبل من أجل دعم لبنان. والواقع أنّه عند كل مأزق كان يواجهه النموذج الاقتصادي اللبناني، كانت تتكفّل جهة خارجية بعملية إنعاشه. لكن، منذ 2011، مع تفاقُم العجز في ميزان المدفوعات، بدأت تشتدّ معالم تعثُّر وشيك. فهل يمكن الدعم الخارجي أن يضمن مرّةً أخرى استدامة الدَّيْن العام وقدرة الدولة على دفع مستحقاتها، في مقابل تجنُّب الانهيار الاقتصادي؟
لم يعُد سوء النموذج الاقتصادي اللبناني خافياً على أحد. وما رفْعُ الشارع شعار يسقط حكم المصرف منذ الأيّام الأولى للثورة إلا دليلاً على ذلك. فالنموذج هو عبارة عن اقتصاد ريعيّ قائم على استقطاب الدولارات من الخارج للحفاظ على سعر الصرف، يوظّفها القطاع المصرفي بتمويل دَيْن الدولة بفوائد عالية تحقّق أرباحاً هائلة للقطاع المصرفي الوثيق الارتباط بالطبقة الحاكمة. تفاقم الدَّيْن العام وارتفعت كلفته في ظل إدارة مالية فاسدة ونظام محاصصة أكثر فسادًا.
هل هناك حلّ فعليّ لتجنُّب سيناريو الانهيار؟
على عكس الأزمات المالية والنقدية في العالم، فإنّ معظم الدَّيْن العام اللبناني داخلي، أي أنّ حوالي 88٪ من الدَّيْن تحمله المصارف والمصرف المركزي ومؤسّساتٌ عامّة. ومن هنا نفهم سياق الاقتراحات في أوساط الثورة التي تطالب بتغيير بنية الاقتصاد اللبناني عبر البدء بإعادة هيكلة الدين العام، فتتحمّل أعباء هذه الأزمة المصارف والطبقة التي استفادت من هذا النموذج لعقود ثلاثة. كما تُعفينا إعادة هيكلة دَيْننا الداخلي من اللجوء إلى دائن خارجي مثل صندوق النقد الدولي. هناك عدّة وسائل وسيناريوهات لخفض الدين العام بالاتفاق مع المصارف، تبدأ من شطب بعض أصول الدَّيْن، إلى قص شعر (Haircut) حسابات كبار المودعين، إلى خفض الفوائد على الدَّيْن العام الحالي والمستقبلي عبر استبدال سندات الخزينة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي والتخلّص من البنوك المتعثرة، وصولاً إلى النقاش عن إصلاحات بالسياسات المالية لا تعتمد التقشُّف بل تؤمّن التمويل للقطاعات الإنتاجية ولبرامج رعاية اجتماعية، على عكس تمويلها القائم على الاستدانة لتمويل مشاريع الحدّ من الفقر.
وفي المقابل، ما الذي تفعله السلطة لتجنُّب الانهيار؟
وقع اختيار السلطة على أسوأ خيار على الإطلاق، وهو خيار الحفاظ على الوضع الراهن بأيّ ثمن. فأدّى ذلك إلى انعدام ثقة المودعين بالمصارف وتهافتهم إليها لسحب أموالهم. وتحت شعار الحالة الاستثنائية، تمّ تجميد عمل القطاع المصرفي، فأُغلقت المصارف من دون أيّ مبرّر، ثمّ أعادت فتح أبوابها بعد اعتماد استنسابيةٍ في المعايير والقيود التي أخذت المودعين رهائن وحدّدتْ لهم مصروفاً أسبوعيًا، وسط أنباء عن تهريب ودائع كبار المودعين والمساهمين. وما هدف حجب الودائع والسيولة بهذا الشكل، إلا منع انهيار القطاع المصرفي أو تأخير هذا الانهيار وتحميل تداعيات الأزمة إلى كلّ الفئات الأخرى.
لسياسة الانتظار هذه تداعياتٌ كارثيّة على الاقتصاد يصعب العودة عنها.
أوّلاً، أدّى تجميد القطاع المصرفي إلى حجب التسهيلات والسيولة عن الشركات الصغيرة والصناعات، ممّا أدّى إلى إقفال المؤسّسات وصرف العمّال. وقد نتج عن ذلك تسريع وتعميق الانكماش الاقتصادي الحادّ الذي لا يمكن تعويضه بخفض الفوائد على التسليفات. ففي خضمّ هذه الأزمة، لم يبقَ مَن باستطاعته الاقتراض. ثانياً، سيكون من الصعب، في ظلّ الانكماش الاقتصادي، احتواء تبعات أزمة الثقة وتفاقم الدين العام. ولن يكون ممكناً بالتالي تجميد استنزاف ودائع المصرف المركزي.
حتّى لو عُقد اجتماع باريس بنجاح، فإنّ أقصى ما قد يؤمّنه هو شراء الوقت. وكلّما مرّ الوقت من دون اعتماد حلول جذرية، كلّما ازدادت فاتورة إنعاش الاقتصاد وتغييره جذرياً. عندها، لن يكون برنامج صندوق النقد الدولي خيارًا نستطيع رفضه. بل سيكون الخيار الوحيد لتمويل فاتورة باهظة لإعادة هيكلة الدين. وسنكون نحن ضحية السياسات التقشفية وشروطها القاتلة.