لا يحتاج المرء إلى الكثير من الشرح لفهم خطورة ظاهرة التهريب على وضعنا النقدي والمالي حين يتعلّق الأمر بالسلع المدعومة من مصرف لبنان، أي القمح والمحروقات والدواء، وبالتحديد حين يكون مسار عمليّات التهريب من لبنان باتّجاه الخارج.
فحين يتمّ استيراد هذه البضائع المدعومة إلى الأراضي اللبنانيّة، يقوم مصرف لبنان بتوفير 85% من الدولارات للمستوردين من احتياطيّ العملات الأجنبيّة المتبقّي لديه، وبسعر الصرف الرسمي المنخفض الذي يقارب 1520 ليرة مقابل الدولار. مع العلم أنّ دولارات هذا الاحتياطي ليست سوى ما تبقّى من سيولة من ودائع اللبنانيين التي وظّفتها المصارف في مصرف لبنان.
بالبساطة نفسها، يمكن فهم ازدياد جاذبيّة عمليّات التهريب بالتوازي مع هبوط سعر صرف الليرة الفعلي في الأسواق. فالمهرّب بات بإمكانه شراء السلع بسعر الدولار المدعوم، وبيعها لاحقاً بعد تهريبها مقابل دولارات نقديّة. وبما أن سعر الصرف الفعلي تتجاوز قيمته 2.8 مرّات سعر الصرف المدعوم، فالعمليّة ستحمل للمهرّب أرباحاً مجّانيّة ضخمة، وبالدولار النقدي.
لا يمكن إذاً فهم عمليّات التهريب المنظّمة للسلع المدعومة إلا بكونها عمليّات تسريب وسرقة لدولارات اللبنانيّين المتبقّية في مصرف لبنان، وهي سيولة تتّسم بحساسيّة خاصّة كونها تشكّل كل ما تبقّى لتمويل استيراد السلع الحيويّة، وكلّ ما تبقّى من سيولة المودعين.
حاول البعض خلال الفترة الماضية التقليل من أهميّة هذه العمليّات، من خلال الإيحاء بأنّ ما يتمّ الحديث عنه في الإعلام مضخّم. لكنّ الأرقام تثبت بأنّ أثر هذه العمليات لا يقلّ أهميّةً عن كلّ أشكال تهريب وسرقة أموال المودعين في النظام المالي اللبناني التي تمّ الحديث عنها منذ تشرين الأوّل الماضي.
فعمليّات تهريب المحروقات عبر الحدود مستمرّة منذ سنوات عدّة، بعد شحّ هذه المواد في السوق السوريّة وارتفاع ثمنها نتيجة العقوبات على النظام السوري وشحّ موارده الماليّة. لكنّ عمليّات التهريب بدأت بالتوسّع خلال السنة الماضية مع تزايد الضغوط على النظام، ثمّ ازداد حجمها منذ أشهر مع تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وللسبب الذي أشرنا إليه سابقاً.
يتبيّن لنا من دراسة أرقام الميزان التجاري اللبناني أنّ لبنان استورد خلال أوّل شهرين من هذا العام ما يزيد عن 1.3 مليون طن من المحروقات، في مقابل أقلّ من 921 ألف طن خلال الفترة نفسها من العام الماضي. وبذلك، يكون توسّع عمليّات التهريب منذ بداية العام قد زاد من حجم استيراد هذه الموادّ بنسبة 41%.
كان الأثر المباشر لهذه العمليّات زيادة فاتورة استيراد المحروقات بحوالي 242 مليون دولار خلال أوّل شهرين من العام، مقارنة بأوّل شهرين من العام الماضي. وإذا أردنا احتساب قيمة هذه الزيادة على أساس سنويّ، تكون النتيجة استنزاف أكثر من 1.45 مليار دولار.
لكنّ هذه الأرقام، رغم ضخامتها، لا تعكس كلّ كلفة التهريب على البلاد، بل تعكس فقط حجم الزيادة في عمليّات التهريب بين العامَيْن الأخيريْن. لكنّ أرقام 2019 كانت تعكس أساساً زيادة بنسبة 57% في حجم استيراد المحروقات مقارنةً بالعام السابق، نتيجة توسّع عمليّات التهريب خلال ذلك العام. وبنتيجة هذه الزيادة، ارتفعت فاتورة استيراد المحروقات بقيمة 2.4 مليار دولار خلال العام الماضي.
باختصار، نحن نتحدّث عن هدر مليارات الدولارات في نزيف يستمرّ ويتزايد منذ سنوات، بينما الاحتياطي السائل لدى مصرف لبنان من العملة الصعبة بالكاد يتجاوز الـ20 مليار دولار.
ألم يكن مصرف لبنان طوال هذه السنوات على دراية بحجم الهدر الحاصل هنا؟
ثمّة من يقول إنّ المصرف المركزي منح السياسيّين الأرباح السخيّة عبر المصارف، من خلال الهندسات الماليّة. لكنّ تجاهل التهريب لم يكن سوى نوع آخر من التقديمات التي جرت لصالح من لا يملك حصّةً في المصارف من أقطاب السلطة، كحزب الله.
قد لا يكون هؤلاء مستفيدين من ربح عمليّات التهريب المالي، لكن مجرّد توفير منفذ للنظام السوري المُعاقب دوليّاً، يُعَدّ ربحاً سخيّاً يوازي بأهميّته الهندسات الماليّة للآخرين.