المرء لا يعرف أمّةً ما من الأمم إلا إذا دخل سجونها. فالحكم على الأمم لا ينبغي أن يرتكز إلى معاملتها لمواطنيها، ولكن إلى معاملتها لمن هُم في المستويات الدنيا.
— نلسون مانديلا
السجون هي المرآة العاكسة للوجه الحقيقي للبلد، وهي تعبّر عن تخلّف أو تحضّر الدولة، وتُعتبر جزءًا أساسيًا في نظام العدالة، حيث تُحقَّق فيها العدالة من خلال الأهداف المنشودة من وجودها.
السجون والنظارات
يُقصد بالسجون أماكن التوقيف، وفي لبنان نوعان: السجون والنظارات.
- السجون مكانًا لتنفيذ العقوبات الصادرة عن المحاكم، وذلك بهدف معاقبة المجرمين وعزلهم عن المجتمع بسبب خطورتهم عليه والإسهام في تحقيق الردع والحد من التكرار. وقد توسّع دور السجن من مجرد مكان لتنفيذ العقوبة ليشمل أيضًا إصلاح المجرمين وإعادة تأهيلهم، بهدف تمكينهم من أن يصبحوا أعضاء فاعلين في المجتمع بعد انتهاء فترة احتجازهم. ويساهم هذا النهج أيضًا بشكل أساسي في الوقاية من الجريمة ومنع التكرار، وبالتالي حماية المجتمع بشكل عام.
- تُعدّ النظارات مواقع استثنائية يتمّ فيها حجز المشتبه بهم أو المدعى عليهم وفقًا لقرارات قضائية، كونهم لا يزالون قيد التحقيق أو المحاكمة. تتمّ هذه الإجراءات وفقًا لشروط وضوابط وأصول شكلية وموضوعية تم تحديدها في نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية. تشتمل هذه الشروط على وجود تبرير كافٍ لحجزهم وأن يكون التوقيف «الوسيلة الوحيدة» للحفاظ على أدلة الجريمة أو المعالم المادية المتعلقة بها، أو لمنع التأثير على شهود الاتهام أو المجني عليهم، أو لمنع المتورطين في الجريمة أو المحرضين عليها من التواصل مع بعضهم البعض، أو لحماية المدعى عليه نفسه أو لوقف تكرار الجريمة، أو لمنع هروب المدعى عليه أو لحماية النظام العام من أي اضطراب ناتج عن الجريمة.
واقعيا، لا تفرقة بين السجون والنظارات، سواء لنوعية النزلاء أو لمدّة التوقيف وفقا لما سيتبين أدناه.
الاكتظاظ الناتج عن التوقيف الاحتياطي
تعاني هذه السجون والمراكز من الاكتظاظ الشديد «الخانق»، والتضخم غير الطبيعي في أعداد الموقوفين إحتياطياً، سواء بناءً على قرارات من النيابات العامة أو توقيف احتياطي بقرار من القضاء المختص. تشير التقديرات الى أن نسبة المساجين بلغت، أواخر العام 2022، 323% من القدرة الاستيعابية، 20% منهم فقط محكومون و80% موقوفون احتياطياً.
وهذا الاكتظاظ والتضخّم، إضافة إلى ما ورد أعلاه، مردّه لسببين:
- الأول، صدور هذه القرارات بشكل متكرر، سواء لفترات قصيرة أو طويلة، وفي أحيان منها بناء على وثيقة اتصال او كتاب معلومات أو برقية منقولة استناداً إلى إفادة مخبر مجهول الهوية والأهداف، دون إيراد التعليل بشكل كافٍ عملاً بأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية. فتصبح النظارات سجناً لقضاء فترة العقوبة، المحتمل الحكم بها، عوضاً عن كونها مركز توقيف احتياطي مؤقت.
- أمّا الثاني، فمردّه غياب مؤسسة «المراقبة القضائية»، أي غياب التطبيق العملي للتدابير البديلة للتوقيف أو للعقوبة، وأهمها تدبير «العمل للمنفعة العامة». يترافق كل ذلك مع بطء في المحاكمات والتحقيقات واستسهال عملية التوقيف. يضاف لذلك تعذّر نقل الموقوفين من السجون إلى المحاكم للمثول أمامها وحضور جلسات المحاكمة، وبالتالي إطالة أمد فترة التوقيف.
وضع السجون
إنّ وضع السجون والنظارات في لبنان لا يتوافق مع المعايير العالمية للعدالة الجنائية، ولا يلبي الوظائف المرتبطة بها مقارنة مع «القواعد الدنيا لمعاملة السجناء» التي أقرّتها الأمم المتحدة تحت مسمى «قواعد نلسون مانديلا». ويمكن وصف وضع السجون في لبنان بأنه سيّئ ومروّع ولا إنساني، وتكاد وظيفة القصاص تتجلى بأسوأ صورها في العديد من هذه السجون، إلى حد يصبح المكوث فيها ضرباً من ضروب التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية.
فبالاضافة لعدم ملاءمة الأبنية ومنتفعاتها واقتصار معظمها على أبنية أو طوابق ضمن مباني السرايا أو الثكنات العسكرية، تشهد هذه السجون على غياب المعاملة العقابية السليمة وتجاهل الحقوق والأصول الأساسية الآتية بنسب متفاوتة من سجن لآخر. وتكثر فيها، مؤخراً، حالات الوفاة والتي تنتهي «التحقيقات» بأسبابها بتحميل المسؤولية الى السجين-القتيل. فالإدارة العقابية اللبنانية لا تتلاءم ومتطلبات التنفيذ العقابي الحديث، كونها مولجة لإدارة عسكرية غير متفرغة أو متخصصة في المعاملة العقابية الحديثة وتفتقر إلى الإختصاصيين الذين تتطلبهم هذه المعاملة. ويترافق ذلك مع رجعيّة التشريعات العقابية اللبنانية بشكلٍ عام وإبتعادها عن الأهداف التأهيلية، إذ ما زال يطغى عليها حتى الآن الطابع الأمني التقليدي القائم على العزل دون التصنيف.
ونتيجة لإنعدام التصنيف وفق درجة الخطورة وطبيعة الجرم أو حتى التصنيف المبدئي والفصل بين المحكوم والموقوف، تسهم ظروف السجون ومراكز التوقيف في إنتاج سجناء حاقدين على السجن والقضاء والمجتمع، وغالبًا ما يعودون للانتقام وتكرار الجرائم التي اكتسبوا فيها خبرة داخل السجون، ممّا يفقد، هذه الأخيرة، وظيفة الردع المرتكز على إعادة التأهيل والإصلاح.
معالجة متعدّدة الأبعاد
هذه بعض الأزمات البنيوية التي تعاني منها السجون في لبنان، والتي تستوجب المعالجة على عدة أصعدة:
على الصعيد الوطني
- اعتراف النظام السياسي والدولة بالأزمة وحقيقتها وأسبابها وإخراج أطر معالجتها من البازار السياسي المعتاد.
- تعزيز جهود الدولة في تحسين ظروف الاحتجاز وفقًا لقواعد الأمم المتحدة النموذجية لمعاملة السجناء (قواعد نلسون مانديلا).
- إيلاء مسؤولية إدارة السجون الى وزارة العدل وليس وزارة الداخلية، عملا بالخطة التي وضعتها اللجنة المشتركة بين وزارتي الداخلية والعدل بتاريخ 29-11-2011 .
على الصعيد التشريعي
- اجراء ورشة تشريعية لتعديل وتحديث القوانين الجزائية، ومنها تعديل قانون العقوبات في عدد من المجالات، وتعديل وتطوير قانون تنفيذ العقوبات المفيدة لتطوير السياسات العقابية المناسبة للحد من اكتظاظ السجون، على أن تتوافق هذه التشريعات والممارسات مع المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- العمل على إقرار تشريعات تدخل مفهوم التدابير البديلة للعقوبات المانعة للحريّة، مثلما هو معمول به حاليًا في قانون حماية الأحداث بالنسبة للـ«عمل للمنفعة العامة».
- تطوير وتسريع آلية البتّ بطلبات تخفيض العقوبات والتطبيق المنتظم لقانون تنفيذ العقوبات (القانون 463/2002).
- بالتزامن مع تشريع بدائل عن السجن للأحداث، خاصة بما يتعلق بالمخالفات الصغرى، من أجل تخفيف الإيذاء المزدوج الذي يتعرضون له، والتخفيف من الاكتظاظ في أماكن التوقيف والسجون.
على الصعيد القضائي
- العمل على تسريع التحقيقات والمحاكمات من قبل القضاة والمحاكم وتطوير وتنظيم سَوق الموقوفين في الأوقات المناسبة من دون إبطاء إلى مختلف المحاكم، وتوفير الأماكن الكافية لإستقبال الموقوفين في النظارات، وتفعيل التدابير البديلة عن التوقيف، مثل «إلتزام الإقامة أو عدم التردّد على محلات أو أماكن معينة والتعهد بعدم تجاوز دائرة المراقبة وإثبات الوجود دورياً لدى مركز المراقبة، سحب جواز السفر والمنع من السفر، أو عدم ممارسة بعض المهن طيلة مدة المراقبة، أو الخضوع للفحوصات الطبية والمخبرية دورياً في خلال مدة يعينها قاضي التحقيق أو تقديم كفالة مالية ضامنة».
- ضمان التقيّد الكامل بالفترة القصوى المسموح بها للاحتجاز قبل المثول أمام المحكمة وتجنب احتجاز المشتبه بهم قبل المحاكمة قدر الإمكان وفقًا للقيود القانونية المفروضة.
- ضمان تطبيق المادة /47/ أ.م.ج المعدّلة وفقا للقانون رقم 191 تاريخ 16/10/2020 والعمل على تأمين حقوق الموقوفين في حسن تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية وسائر الأحكام القانونية التي ترعاهم وتؤمن إحترام حقوقهم وفرضية البراءة.
- اتخاذ تدابير لضمان إجراء تحقيقات فورية ونزيهة عند وفاة أي شخص أثناء الاحتجاز. وتوفير معلومات مفصلة لجميع الأطراف المعنية حول حالات الوفاة أثناء الاحتجاز وأسبابها.
على صعيد الأبنية
- ضرورة بناء السجون في المحافظات المختلفة التي صدّق مجلس النواب على تمويلها، وإقفال جميع الأبنية المستعملة كسجون في جميع المحافظات، والتي لا تتوافر فيها الشروط المطلوبة لإستعمالها كسجون وفق المعايير القانونية الدولية الإنسانية، ومنها، على سبيل المثال، سجن وزارة الدفاع.
- إخلاء جميع السجون وأماكن التوقيف من الأحداث وايداعهم حصراً في المؤسسات العقابية والتأديبية والإصلاحية الخاصة بهم.
- الفصل الكامل في السجن بين النزلاء المحكومين والموقوفين إحتياطياً الذين يفترض القانون براءتهم حتى صدور القرار القضائي النهائي، وضمان معاملة الأشخاص المحتجزين بإنسانية واحترام كرامتهم.
- وضع النزلاء المحكومين بجرائم مماثلة بعضهم مع بعض، وعدم الخلط بين المحكومين بجرائم خطيرة وسائر المحكومين والأخذ بالاعتبار، بالنسبة لتصنيف النزلاء، مجموعة من العناصر، منها نوع الجريمة وخطورتها والطبيعة النفسية للسجين وظروف الجريمة.
- توفير المتطلبات الأساسية الضرورية في السجون مثل متطلبات الصحة العامة، لا سيما: التهوئة والنظافة وماء الشرب والماء الساخن للاستحمام مع أوقات مناسبة لذلك والمراحيض والأسرّة والبطانيات والملبس اللائق، كذلك تحسين جودة الطعام وكيفية تجهيزه وتوزيعه.
- توفير أماكن عامة وخاصة مناسبة ومؤهلة لأصحاب الإعاقات الحركية عملاً بالقانون (220) الخاص بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
أزمة السجون في لبنان من أزمة نظامه السياسي، تتراكم وتتدهور أوضاعها ارتباطاً بتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. ينتهج النظام حيالها سياسة طمس حقيقة الممارسات والارتكابات، وحلّه الوحيد، دائماً وابداً، «العفو العام» الخالي من أي معيار علمي في طرحه، لاستخدامه ضمن الأوراق السياسية التي يستنبطها، تلقائياً، كجزء من استراتيجيته لإدارة أزماته والتوظيف فيها. أي معالجة يجب أن تنطلق باعتبار السجن «مؤسسة عقابية، زجرية، وقائية، تأهيلية-إصلاحية» تحكمه قواعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والدستور اللبناني.