السيدة مولر
إنه يوم الجمعة. أتّجه كعادتي إلى عملي في عيادة الطب النفسي تمام الساعة السابعة والنصف صباحاً. حضرت الاجتماع الصباحي مع الاطباء الآخرين، وتوجّهتُ بعدها إلى القسم الذي أعمل به حالياً: قسم علاج الاضطرابات الاكتئابية. استقبلت المريضة الأولى في التاسعة صباحاً.
السيدة مولر (اسم مستعار) امرأة تبلغ من العمر 78 عامًا، تعاني من حالة اضطراب اكتئابي مستمر. ورغم خضوعها لمسارَيْ علاج SSRI مختلفين (وهو علاج مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية، أكثر مضادات الاكتئاب استخداماً) وساعات عديدة من العلاج النفسي، ما زالت تعاني من تكرار حلقات اكتئاب حادّة وغياب الحماس ومشاعر ذنب ثقيلة وتخيلات انتحارية.
لكنّ السيدة مولر أتت اليوم لسبب مختلف. ستتلقى جرعة أولى من دواء جديد نسبيًا في مجال الطب النفسي. يعطى العلاج كحقن وريدي من الكيتامين في غرفة ضعيفة الإنارة تشغل فيها موسيقى هادئة لمدة أربعين دقيقة. أعدّ الحقن ثم أضغط على زر البداية. تقطر النقاط. تتمدّد المريضة. أجلس الى جانبها وننتظر سوياً. تبدأ بالكلام بعد حوالي 15 دقيقة: «خسارة ابنة صعب للغاية. خاصة عندما تكون طفلة صغيرة. حملتها في جسدي لمدة طويلة. وأعطيتها حياتي. ثم دهستها سيارة فجأة وماتت. ذهبت. يسألني الأطباء عن مشاعر الفراغ. ماذا يعرفون عن الفراغ؟».
تمّ تركيب الكيتامين للمرّة الأولى سنة 1962، واستخدم بعد فترة وجيزة كمخدِّر. لكن استخدامه كعلاج معتمَد للكآبة لم يبدأ إلّا سنة 2019 في ألمانيا (وغيرها من الدول، لكن خبرتي المباشرة ترتكز في ألمانيا). لا يوجد جواب واضح يفسر كيفية علاج الكيتامين لعوارض الاكتئاب. لكن، من وجهة نظر ديناميكية-نفسية، يولد الكيتامين حالة من الانفصام التخديري. يضعف الكيتامين الآليات الدفاعية الذاتية، ويسمح بظهور المشاعر المكبوتة والتجارب الصادمة والقلق المولد للأفكار المظلمة، لكي تتحرر من كبتها وتتجلى. قد يبدو كابوسًا، إلا أن الجانب الآخر للكيتامين يقدّم حلًا للمشكلة: يستحضر حالة نفسية يشعر خلالها الأشخاص بانفصالهم عن ذواتهم لكي يستطيعوا مراقبة أنفسهم من منظار ثالث، بدلاً من اختبار المشاعر بالعبء النفسي الذي تحمله. أي أن المكبوت (الذي يولّد العوارض) يعالج بسلام كي يتمكن المريض من أن يخطو خطوةً أولى باتجاه تحرّره.
صديقٌ من بيروت
قضيتُ يومي في العمل. تلقّيتُ رسالةً من أحد معارفي في بيروت في حوالي الساعة الثانية ظهرًا تقول: «هادي، أحتاج لمساعدتك. أحتاج أن أتكلم مع شخص ما». قلت له إنّنا نستطيع التحدّث عبر الهاتف لاحقا بعد الظهر. اتصلت به عند عودتي إلى المنزل. ردّ عليّ بصوتٍ ضعيف وشرع بالحديث: «أنا أغرق يا هادي. أذهب بعيداً وبعيداً. أنا أغرق في هاوية أفكار مظلمة. آخذ كمية أكبر كلما أغرق. لا أعرف ماذا أفعل. عندما لا آخذه لا أستطيع تحمل نفسي. لا أستطيع تحمل مشاعري وأفكاري. التهمتني المادة وما زلت أطعمها نفسي. أنا عالق». المادة هي الكيتامين.
سنحت لي فرصة اختبار تأثير الانهيار الحالي في لبنان على تعاطي المخدرات كطبيب متخرّج حديثاً ومهتمّ بالطب النفسي. يجب أن أعترف أنني لاحظتُ حاجةً متزايدة لدى الشعب اللبناني، خاصة الشباب منه، إلى اللجوء للمواد المخدّرة لتحمّل ألم الحياة اليومية. فيعيش الكثير من اللبنانيين الانهيار كشعور بالسجن في مساحة عنفية، لا تكفّ عن مهاجمتهم يوميًا، حتى بلغت ذروة هذه الهجومات في انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020.
يُعتبَر اللجوء إلى مواد مخدرة هرباً عقلياً إلى مكان أكثر أماناً، وحلّاً لمعضلة الاحتجاز الجسدي في مكان خطر. فلا يحتاج المرء إلى الكثير، مجرّد غرفة وباب مقفل ومخدر ما. شهدتُ على إدمان الآلاف على الكيتامين ومواد مخدّرة أخرى تتيح هذه المساحة الآمنة ضن غرف مغلقة. لكنّ تأثير الكيتامين على صحتهم العقلية اختلف كليًا عن تأثيره بحالة المرضى الذين تلقوا علاجاً نفسياً في العيادة التي أعمل بها. فقد طوّر معظم الأشخاص الذين أعرفهم، والذين يستخدمون المخدِّر بانتظام، علاقةً سامّةً معه. يزيد هذا الاستخدام من عوارض القلق والكآبة في حالات الوعي. أو يبقيها على حالها في أفضل الأحوال. أي أنهم لا يختبئون إلا لوقت قصير داخل أفكارهم.
الفرق بين الدواء والمخدّر
وهنا يطرح سؤال جوهري: «ما هو الفرق بين الدواء والمخدِّر؟»
من منظور علمي بحت، لا فرق بين التركيبة الكيميائية للمادّة التي أعطيتها للسيدة مولر في بداية قصّتي والمادّة التي تعاطاها المريض الآخر في بيروت.
الاختلاف هو، أولًا، لغوي، مرتبط بفرق المعنى بين كلمتَيْ «دواء» و«مخدّر»، وسلسلة الدلالات المتعلقة بكل منها. عادة، تتبنّى جهةٌ ما مسؤولية تعريف مصطلحات محدّدة. بأفضل الأحوال، تتمتع هذه الجهة بأكبر قدر من المعرفة الموضوعية. لذا، تكتسب سلطةً بهذا الإطار. مثلاً، للبحث عن تعريف النواة المرافقة (جزء من العقل)، يجب اعتماد كتيبات التشريح العصبي الصادرة عن مؤسسات معتمدة بالدراسات العملية العصبية، مرجعاً. مهمّة تعريف المصطلحات من منظور علمي بحت سهلة نسبياً. لأن العلم، بحالته المثلى، لا يهدف إلا للتقدم. أي أن المصطلحات يجب أن تعرَّف بموضوعية ودقّة بعيداً عن نيّات معرِّفيها. لكنّ جهاتٍ عدّة ذات أجندات سياسية تتدخّل بتعريف المصطلحات ذات التداعيات الاجتماعية العميقة. لذا، يصبح الفرق بين «مخدّر» و«دواء» فرقاً سياسياً.
يقدّم التاريخ أمثلة كثيرة عن هذا الالتباس، كمثل تجريم حمض الليسرجيك، أو ما يعرف بـLSD، عام 1970 في الولايات المتحدة الأميركية. أجريت أبحاث على حمض الليسرجيك واستخدم كعلاج نفسي لاضطرابات متعدّدة مثل إدمان الكحول بعد أن اكتشفه عالم الكيمياء السويسري ألبرت هوفمان سنة 1937. آنذاك، اعتبر حمض الليسرجيك «دواء». كما أطلقت وكالة الاستخبارات المركزية في الخمسينات مشروع تحت اسم MK Ultra بهدف دراسة فعالية حمض الليسرجيك كـ«مشروب الحقيقة». استُخدِم على الجواسيس الذين قبضوا عليهم، واستُعمل أيضاً لتعديل وضبط سلوك الناس. آنذاك، عرّفت وكالة الاستخبارات المركزية حمض الليسرجيك كـ«سلاح» محتمل. وبعد استخدامه في ما يُعرَف بالثقافة البديلة، والتي شكّلت أحد مراكز الاعتراض على الحكومة الأميركية وسياستها الخارجية العنيفة، وقّع الرئيس الأميركي ريشارد نيكسون على قانون عرّف أخيراً حمض الليسرجيك كـ«مخدّر». هناك أمثلة أخرى عن مواد مشابهة اعتبرت سابقا خطيرة، قبل أن يعاد اكتشاف إمكانياتها العلاجية، مثل مادة السيلوسيبين، أو ما يعرف بالاكستاسي أو الـMDMA. حاليا، هناك تجارب متقدّمة مع الاكستاسي لعلاج اضطرابات ما بعد الصدمة، كما يتمّ اختباره لعلاج الاكتئاب.
أهمية السياق والطبقة الاجتماعيّة
في الدول التي يُختَبَر «الكيتامين» فيها كعلاج، يتلقّاه المريض في عيادات نفسية متخصصة، إذ يشرف على العملية طاقم محترف، ويكون الدواء جزءاً من برنامج علاجي، نتج عن سنين طويلة من البحث. يخضع المريض للعلاج بهدف التحسن، حتى يصل إلى مرحلة يمكن أن يتخلّى فيها عن المخدّر.
أما في لبنان، فالوضع مختلف. أتكلم عن لبنان لأنه هدف هذا المقال، لكن ذلك لا يعني غياب هذه المشكلة في دول أخرى، أو أنني أخذ الغرب مثالا. هذه مشكلة شائعة في دول «العالم الأول» لكن شاءت الصدف أن ترتكز خبرتي مع الكيتامين في ألمانيا وهو سياق مختلف كليا عن لبنان. يهلع المرضى من القبض عليهم بينما يأخذون «المخدّر». تتبع الأجهزة الأمنية نظام عمل صارماً وقاسياً لمعاقبة تعاطي المخدرات، ممّا يولد حالة رعب لدى المرضى. تحول حالة الرعب هذه و«الخوف من ارتكاب خطأ ما» دون علاج المرضى. فيفتقد المرضى لمساندة مختصّ للإجابة عن تساؤلاتهم ودعم تجربتهم وطمأنتهم بحال الخطأ والشرح للمرضى بأنهم يصغون لهم من موقع مهني. يقوم المرضى بكل ذلك وحدهم، محاولين بلا جدوى البحث عن استراحة من الواقع الذي خلقته الحكومة التي تريد سجنهم.
من التفاهة اعتبار المرضى مجرّد «مجرمين» أو «مدمنين». كما يُعتبَر غيرَ منطقيّ اقتراح «الذهاب الى الطبيب بحال الحاجة الى المساعدة» في بلد مثل لبنان. فيتوفر دواء الكيتامين في لبنان، وقد شهدت على استخدامه كعلاج للاكتئاب في عيادات الأطباء النفسيين. لكنّ كلفة الجلسة باهظة، مما يجعل هذا العلاج محصوراً بقلّة. الواقع أسوأ من ذلك، إذ يلجأ مرضى يعانون من نقص الانتباه واضطراب فرط النشاط في لبنان إلى شراء الأمفيتاميناتمين من تجّار المخدرات لارتفاع كلفة الاستشارات النفسية الضرورية للحصول على وصفة طبية تسمح بالوصول إلى الدواء الآمن (الميثيلفينيديت).
الفرق بين المريض ومدمن الدواء في الدول الرأسمالية النيوليبرالية (مثل لبنان) هو الطبقة الاجتماعية. هل تملك مالاً كافياً لتكون مريضاً؟ أو هل ستلجأ إلى هاوية العلاج الذاتي بأدوية تباع على الشارع؟ هل تملك مالاً كافياً للعلاج في سرير مريح في المستشفى مع خبراء مدربين أم «ستتعاطى المخدرات» في غرفتك راجياً أن تخرج منها على قيد الحياة؟
إعادة تعريف المخدّرات
معضلة تعاطي المخدرات معقّدة وتتجاوز نطاق هذه المقالة بأشواط. لكنّ ما أريد تصويب الضوء عليه هو أوّلاً، وقبل كل شيء، أنّ مصطلح «المخدرات» غامض للغاية وفاقد للصلاحية. المصطلح يشمل المواد التي لها تأثير على العقل البشري، من الكافيين إلى الهيروين. قد يُستخدَم بعض هذه المواد للعلاج النفسي، وبعضها الآخر مضرّ بالصحة. نحتاج إلى إعادة تعريف المخدرات، كي تدرس من منظور علمي بعيدا عن الوصم والدلالات السلبية.
تُعدّ إتاحة هذه الموارد لعامة السكان في البلاد خطوةً مكلفة تتطلّب تخصيص مبالغ كبيرة للقطاع الطبي، وخاصةً أقسام الطبّ النفسي لتجهيز المرافق والكادر الطبي لإعطاء هذه العلاجات. لكن غلاء التجهيز لا يعني أنها خطوة ثانوية. أزمة لبنان لا تعني أنّه غير معني بالتفكير في مسائل الصحة النفسية واستهلاك المخدرات، بل بالعكس، قد تكون الأزمة دافعاً أساسياً لطرح هذه الأسئلة.
أخيرًا، أودّ أن أوضح أن هذه المقالة لا تهدف أبداً للترويج لاستهلاك مواد مخدّرة. علّمتني تجربتي الشخصية، كشاهد على انهيار كثيرين نتيجة الإدمان، أن الاستخدام المتكرّر للمخدرات كوسيلة للتعامل مع الظروف الاجتماعية المتدهورة لا يؤدي إلى نتائج ايجابية على الصعيدين الفردي والجماعي. ما تهدف إليه هذه المقالة هو دفع الجميع للتشكيك في التعريفات الجامدة لمسائل هي بالواقع ديناميكية، والتشجيع على إعادة التعريف هذه في الأجندة السياسية للحركات الثورية التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي. كما تهدف إلى النضال من أجل نظام طبابة نفسية عادل يوفر لجميع المواطنين كل الموارد المتاحة للشفاء من الاضطرابات العقلية التي نعاني منها نتيجة سنوات من الظلم الاجتماعي.