نشهد في موسم الأعياد مبادراتٍ متعدّدة المصادر تمدّ يد العون إلى الذين يعانون من الضائقة الاقتصادية. قد تساهم تلك الانعطافة الإنسانية بالبلسمة الآنية لبعض الجراح، لكنّها تؤدّي في نهاية المطاف إلى شلّ العصب السياسي للثورة.
هكذا قرّرت أحزاب السلطة أن تُضيف جزرة الإعاشات إلى عصيّ الشبّيحة ومسيل الدموع. فغطّت الكراتين المدموغة بأعلام أحزاب السلطة أراضي الجمهورية اللبنانية. واللافت أنّ هذه الكراتين قد عادت إلى الظهور بعد ما يقارب ثلاثة عقود على التاريخ الرسمي لانتهاء الحروب الأهلية، وبعد سنوات من إعادة الإعمار ومن بيروت مدينة عريقة لمستقبلٍ «أكل» حقوق من عمل له. عادت الإعاشات بعد إنجاز مصالحة الجبل التاريخية التي تُتوَّج اليوم بإعادة إحياء الإدارة المدنية الجنبلاطية، بينما تُوزَّع غالونات الزيت بعد عمل تنمويّ دؤوب ومتراكم النتائج لكتلة التنمية والتحرير.
تعيد تلك المبادرات تنصيب الزعيم كأبٍ يهتمّ برعيّته، فيحثّها على استصلاح الأرض وزراعة الحبوب والتقشّف والصبر على الضائقة الاقتصادية. تُغيِّب المواطنات اللواتي طالبن بحقّهن من الدولة وتُبعَث مجدّداً أطياف الأهالي الذين لا سبيل لهم نحو مخاطبة الدولة إلّا وساطة الزعيم، فتنتعش العصبية الفئوية وتضعف السياسة المبنية على مصالح جامعة عابرة للولاءات.
تسعى السلطة من خلال تلك الإعاشات إلى إعادة إنتاج الولاء الحزبي- الطائفي- المناطقي. فتعيد السلطة إعادة تدوير نفسها من خلال رمي الفتات لمناصريها بعدما نهبت سياساتها اللبنانيين وأفقرتْهم، فتغيّب مسؤوليتها ويتبارى الزعماء بإظهار كرمهم بمدّ الناس بجزرة هزيلة. جزرة لا يمكن النظر إليها إلا كورقة مرافقة لسياسات العقاب الجماعي للمصارف التي تطال الأكثرية الساحقة من المودعين.
لا بدّ من التذكير في هذا السياق أنّ لا تناقض بين «فعل الخير» وسياساتٍ تؤدّي إلى تهميش فئات اجتماعية كثيرة. وخير دليل على ذلك تجربة رفيق الحريري الذي أغدقت مؤسّساته المنح الجامعية وأرست سياساته أُسُس نظامنا الاقتصادي بعد الحرب. هكذا انضمّت إلى هذه الانعطافة الإنسانية بعض الفئات البورجوازية، فنظّمت عشاءً إعلامياً متقناً في ساحة الشهداء تحت عنوان التشارك الميلادي والتضامن ما بين الفئات الاجتماعية المختلفة. فانقلبت ساحات الثورة التي سعت إلى تغيير النظام إلى أستوديو لإظهار سخاء الأعمدة الطبقية للنظام.
تساهم وسائل الإعلام المرئي، بدورها، في محاولة نزع العصب السياسي للثورة من خلال إغراق المشاهدين والمشاهدات بنقل حالاتٍ من البؤس الاجتماعي، والدعوة إلى التبرّع للتخفيف من «وجع الناس». هنا أيضاً يُغيَّب المسؤول عن «الوجع» الذي نُدعى للمساهمة بالخفيف من حدّته، من خلال التبرّع بمدفأة لمحتاج في موسم الشتاء، بينما يضمر الكلام عن الأسباب الحقيقية لـ«الوجع» وصياغة سياسات اقتصادية تخدم مصلحة الطبقات الشعبية.
لا شكّ أنّ الإغاثة الإنسانية قد تُنقذ حيوات الناس في حالات طوارئ معينة، وقد تشكّل مسكّناً مؤقتاً لحالات مزمنة. لكنها، في حالتنا هذه، تساهم أيضاً بسدّ الكوّة التي فتحتها الثورة في جدار النظام اللبناني، من خلال بلورة معنىً جديد للسياسة مبنيّ على أساس التناقض ما بين مصالح الناس والنظام الطائفي- الطبقي- البطريركي الحاكم؛ فتعيد تدوير الزعيم جاعلةً منه حاجة حيويّة لخلاص الجماعة، وتحوّل البؤس الاجتماعي إلى آفة مجهولة المصدر هبطت علينا من كوكبٍ آخر.